بسم الله الرحمان الرحيم
الرَّوضَةُ الجَامعَة في تفسير سُورة الوَاقعَة
كانَ الشيخُ سيدي محمد المدَني، قدّس الله سرّه، مُرَبِّيًا كاملاً، سَاهرًا على إيصال المَعَارف للفقراء ونفع عامة المسلمين. وبما أنَّ وِردَ الطريقة المدنيَّة العلاوية يَقوم على تلاوة سورة الوَاقعة مَرَّتَيْن فِي اليوم، فإنَّ الشيخَ أَلَّفَ تفسيرًا بليغًا لهذه السورة، فأوْضَحَ مَعانيها وأبَانَ عن مبانيها حتَّى تَكون قراءتُها عَن فَهْمٍ وبصيرةٍ. وهذا شأنُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهديه مع أصحابه العظام فَقَد وَرَدَ عن عبد الله بن مسعود: مَا كنَّا نحفظُ من كتاب الله إلا خمسِ أو عشر آياتٍ حتَّى نَعمل بها ثمَّ نعودَ فنحفظَ خمسًا أو عشرًا أخرى.
ويسرنا أن نعرض من خلال تفسير الرَّوضَةُ الجَامعَة في تفسير سُورة الوَاقعَة نموذجًا لعلم الشيخ المدني ومنهجه القائم على الفهم والمعرفة والتأمُّل في كلام الله وتدبر معانيه: فالتصوف ليس إلاَّ تدبُّرٌ لكلام الله وتَبَيُّنٌ
لمراد الله منه.
الإهداء
الحَمد لله، والصلاة والسّلامُ عَلَى رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن وَالاَهُ.
أمَّا بَعدُ، فإنّي أُهدي كِتَابي هَذَا إلى أَسَاتِذَتي ومعلّمِيَّ ومَن لَهم الفَضلُ، خُصوصًا حَضرةِ العارف بالله، مَولايَ سَيِّدي الحَاج أحمد العلاوي. والقُرآنُ وتَفسيرُه أَفضلُ مَا يُهدَى. نَسأله تَعالى أنْ يُنزلَ السّابقين مُنزلاً مُبارَكًا، وهو خَير المُنزلين، ويطيلَ حياةَ البَاقين، مُوَفَّقِينَ، ويتَوَلانَا وإياهم وهو يَتَوَلّى الصّالحين. راجيًا من هؤلاء أنْ يقابلوا هذا التّأليف بالإغضا. ويَنظرُوهُ بعين الرّضا. ومَن ادّعَى أنّه أحاط بعجائب القرآن فقد اعتدى. ومَن اعترفَ بالعجز والنسيان فَقَد اهتدى.
والله المسؤول أنْ يُرشدَنَا إلى طريق الهُدَى، بِحرمَة مَولانَا رَسول الله، صلّى اللهُ عَلَيه وَسَلّمَ.
العبد الضّعيف
محمد المدني
بسم الله الرحمان الرحيم
الرَّوضَةُ الجَامعَة في تفسير سُورة الوَاقعَة
1- الحَمدُ لله، الذي أنزلَ قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرّشد، فكان صراطًا مستقيمًا، عَلى قلب رسول كريمٍ، يسوق إلى جنّة الخلد، فَكانَ مُرشدًا عظيمًا، صلَّى الله عَليه وَعَلَى آله وأصحابه ومَن وَفَى بالعهد وسلّم تسليمًا. فَهو نُور على نورٍ. تَنشرح له القلوب والصّدورُ. فتنهض إلى الرّفيق الأعلى، مَعدنِ التَجَلِّي والظهور. وتَشرب من كأس كان مِزَاجُها تسنيمًا.
2- أمّا بعد، فإنّي أوجّه الخطابَ لمن كَانَ سببًا في تأليف هذا الكِتَاب، ومفتاحًا لهذا الباب، وأثني عليه ثناءً عظيمًا، ألا وهو الأخ النّبيل، التّقيّ الجليل، الثقة الموثق الأصيل، العلامة الشيخ سيدي محمد السخيري [1] المنستيري، سَقانَا الله وإيّاكم من فَيض فَضله شرابا مختومًا.
3- غَيرَ أنّي أقول لك أيّها الأفضلُ، والصّديق الأوّلُ، وإنْ كانَ ظنّكَ فينا أجملُ، إنّك قد حَمّلتَني أمرًا عظيمًا. فلو كَلَّفتني أن أبنيَ مصرًا، أو اخترق صفوفَ القتال قَسرًا، أو حَملتَ عليَّ إصرًا، لَكانَ ذلك أهونَ عليَّ وأسلمَ تسليمًا. كيف وقد التمستَ منّي أن أفسّرَ الآياتِ البيّناتِ وأفتحَ الحصون المُعجزَاتِ، وأدخلَ بجَواد فهمي الأعرج ميادينَ القرآن الواسعات. فأنّى يكون لي ذلك إلا أن تقول: فضلٌ الله يؤتيه من يشاء “وكان فضل الله عليك عظيما”.
4- لاسيَّمَا سورَةُ الوَاقعَة التي تَرجف لديها القلوب فازعةً، وتكلّ الأذهان في مَيادين مَعانيها الوَاسعة الجَامعة. نعم إنّ أقصرَ سورةٍ من القرآن، لِصَولَتِها وبلاغتها، تَذَرُ العقولَ هشيمًا. إلاّ إذا حفت بها العناية الإلهيّة. فزجَّت بهَا في عَين الحَضرة الأحديَّة وأَسبلت عليها مِن المَعارف حُلَلاً سندسيّة. فترى أنّ الباري جلّ شأنه كلَّمها تكليمًا.
5- ولقد سمعت أيّها الأخ كلامَكم بجناني، فإذا هو واردٌ رحمانيٌّ، وإذنٌ ربانيٌ، يَقودني لاستخراج الجواهر والمعاني فكنت له أسيرًا وصرت به عليمًا، وبعد أن أخذت القلم، لشرح ما بصدري قد ألمّ، قلت لا تآخذنا إن نسينا أو أخطأنا، فأنت على التحقيق هو المتكلّم، ولا علمَ لَنَا إلاّ ما علّمتنا، إنَّ الله كانَ عليما حكيمًا، متمثلاً بقول القائل:
تَرَاني كالآلة وهوَ مُحرّكي *** أنا قلمٌ والاقتِدَارُ أصَابِع
6- وقد سمّيته: الرّوضة الجامعة في تفسير سورة الواقِعَة، فاجعلَه اللهمَّ نافعًا للقلوب، ماحيًا للذّنوب، إنّك أنت المرجوُّ والمَطلوب، إنَّ اللهَ كانَ غفورًا رحيمًا، فعليك اعتمادي، وإليك استنادي، وبك استعانتي ومنك استمدادي، لذلك جاء في أوّل كلّ سورة بسم الله الرّحمان الرّحيم، تنبيها لنا وتعليمًا.
7- وقَد رأيت من المناسب قبلَ الشّروع في المقصود أن أقدّم فصولاً بعضها يتعلّق بالبسملة، وبعضها بفضائل سورة الواقعة، وبعضها بتفسير السّادة الصوفية للقرآن الكريم، وذلك كلّه على سبيل الإجمال والله وليّ التّوفيق.
الفصلُ الأوَّلُ: هَل البَسْمَلَةُ آيةٌ من القُرآنِ ؟
8- قَد اتَّفَقَ النّاسُ عَلَى أنَّ البَسمَلَةَ في سورة النّمل بعضُ آيَةٍ منَ القرآنِ، وذَلكَ في قَوله تَعَالَى: “إنَّهُ مِن سُلَيمَانَ وإنَّهُ بسمِ اللهِ الرَّحمانِ الرَّحيم” [2] واختَلَفوا في البَسملة في غير سورة النّمل على عَشرَة أقوالٍ: الأوّل: أَنّها لَيسَت آيةً من السّور أصلا، الثّاني: أنَّهَا آيَةٌ مِن جَميعها غَير بَرَاءَةٍ. وَعَلَيه ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ حَمزَةَ، وغَالبُ أَصحاب الشّافعيِّ والإمَاميّةُ، الثّالث: أنَّهَا آيةٌ منَ الفَاتحَة دون غَيرها، وبه قالَ بعض الشافعيّة وحَمزَة، وَنُسِبَ للإمام أحمد، الرّابع: أَنّهَا بَعضُ آيَةٍ منَ الفَاتحة فَقَط، الخامس: أَنَّهَا آيةٌ فَذَّةٌ، أُنزِلَت لِبَيَانِ رُؤوسِ السُّور، تَيَمُّنًا وللفَصل بَينَهَا، وعَلَيه أهلُ المَدينَة ومنهم مَالك، وأَهلُ الشَّامِ ومنهُمْ الأَوزَاعيُّ، وأَهل البصرة ومنهم أبو عَمرو ويعقوب وهو المشهور من المَذهَب الحنفي. السّادس: أنَّه يَجوزُ جَعلهَا آيَةً من الفاتحة، وغيرَ آية لتكرُّرِ نُزولهَا بالوَصفَيْن، السّابع: أَنَّهَا بَعض آيَةٍ من جميع السّور، والثّامن: أنَّهَا آيَةٌ منَ الفَاتحَةِ، وبَعض آية من السّور. التاسع: عكسه، العاشر: أَنَّهَا آيَةٌ فَذَّةٌ وإنْ أُنزِلَتْ مرارًا. اهـ من تفسير الألوسي بتصرُّفٍ وتَقديمٍ وتَأخيرٍ [3].
الفصلُ الثّاني: في مَعنَى البَسمَلَة:
9- اختلفَ العُلَمَاءُ في مَعنَى البَاء هَلْ هيَ للاستِعَانَة أَو للمُصَاحَبَة أو غَيرِ ذلك. والذي اختاره الألوسيُّ وغَيرُه أنَّهَا للاستعانة، وهوَ الذي تَميلُ إليه النّفس ويطمئنّ به القلب، ويَتَقَوَّى به الإيمان. إذ في الاستعانة مَا لاَ يَخفَى من الاستكانة والرّجوع إلَى اللهِ وإظهَارِ العبوديّة إليه، فَمَهمَا شَرَعَ العَبدُ في القراءة أو في غيرها إلاّ استشعرَ أنَّه مُستعينٌ بالله، لاَ بِغَيرِهِ، ومُمْتَثِلٌ لِأَمرِ اللهِ في قَوله: “اسْتَعينُوا بالله [4]”، ولِأَمر رسولِهِ، صَلَّى الله عَلَيه وسلّم، في قَوله: “إذَا استَعنتَ فَاستَعِنْ بالله” [5] .
10- وإيّاكَ أنْ تَفهَمَ من الاستعانة بالله ما تفهمه من الاستعانة الجارية بينَ العِبَادِ فَتشتَركَ معه في الفعل، فَيكُونُ لَكَ بَعضُه ولَه بَعضه. أَو تَستعينَ به فِي بَادِئِ الأَمر، وتغفِلَ عَنهُ فيمَا عَدَا ذَلكَ. كلاّ، إنَّمَا هيَ استِعَانَةٌ بِجَانِبِ الحَقّ عزّ وجلّ القَائل: “وَاللهُ خَلَقَكُم وَمَا تَعملونَ” [6] . ولَيسَ للعبد شَيءٌ فِي أَيِّ فِعْلٍ كَانَ إلاّ الكَسب الظّاهري الذي لا تأثيرَ لَه. هاته هي الاستعانة بالله.
11- وأمّا “الله” فَهو في الجاهليّة والإسلام عَلَمٌ عَلَى الذات الجَامعة لسائر الأسماء والصِّفَات، وهو الاسمُ الأعظمُ عندَ الجمهور. وقد حكى ابنُ جَمَاعَةَ أنّ الأشعريَّ رُؤيَ في المَنَام فَقيل له: مَا فَعَلَ اللهُ بكَ؟ قَال: غَفَرَ لي، فَقيل: بمَاذَا؟ قَال: بِقَولي بعَلَميّةِ الله. اهـ. مِن مُصَحِّح الألوسي.
12- و“الرّحمَانِ الرَّحِيمِ”: اسمَانِ مَعنَاهُمَا واحدٌ، ولذلكَ تَرَاهمَا مَذكورينَ في صحبة واحدةٍ في الغَالبِ لتأكيد الرّحمة وتطميع قلوبِ الراغبين. وقيل بينهما مُغَايَرَةٌ: فَهوَ رَحمانُ الدُّنيَا، فَيَعُمُّ المؤمنَ وَالكَافرَ. وَرحيمُ الآخرةِ فَيَخُصُّ المؤمِنَ. وهَل الرحمان أبلغُ لأنّه يَتَنَاوَلُ جَلائِلَ النِّعَمِ وَأصُولِهَا، أَو الرَّحيم أبلغُ خلافٌ. هَذا وقَد قَالَ ابن عباسٍ، رَضيَ الله عنهما،: همَا اسمَانِ رَقيقَانِ، أَحدُهمَا أرقُّ منَ الآخَرِ.
الفصل الثّالث : في حكم البسملة في الصّلاة
13- وَأَمَّا حُكمُ البَسملة فَلاَ بأسَ بهَا في التطوّع عند الأربَعَة. وَأَمّا الفريضةِ فَيُجهَرُ بهَا مَعَ الجَهر وَيُسِرُّ بها مَعَ السرِّ عندَ الشّافعي. ويُسرّ بها مطلقًا عندَ أبي حنيفةَ وأحمدَ، رضيَ الله عنهمَا. ولا يُبسمِلُ سرًّا ولاَ جهرًا في مَذهب مَالك. وروي عن مالك قولٌ بإباحتها، والمَشهورُ عنهُ الكَرَاهَةُ. وعَن ابن مَسلَمَةَ: أنّها مندوبة. وقال ابنُ نَافِعٍ هي واجبَةٌ. وبمناسبة هذا الخلاف قَال القَرَافي وابن رشد والغزَالي وجماعةٌ: الوَرَعُ البَسملة أوّلَ الفَاتحة للخروج منَ الخِلاَف.
14- وفي كتاب: الفَواكه الدَّوَاني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، للعَلاَّمَة الشّيخ أحمد بن غنيم بن سالم بن مهنَّا النفزَاويّ المالكي المتوفّى سَنَةَ خمس وعشرين ومائة وألف هجريّة، "أنَّ مَحَلَّ كَرَاهَةِ البسملة عند مالك في الفَريضة إذا أتى بها عَلَى وَجْه أنَّهَا فَرضٌ، من غير تَقليد لمن يقول بوجوبها، وأمَّا إذَا أَتَى بهَا مُقَلِّدًا لَه، أو بقصد الخروج من الخلاف من غير تعرَّض لفرضيّة ولاَ نَفليّة، فَلا كَرَاهَةَ بَل واجبةٌ، إذَا قَلَّدَ القائل بالوجوب ومستحبَّة في غَيره.
15- هَذا وفي كتاب النَّشر في القراءات العشر، للحَافِظِ ابن الجَزَريّ، قال عند الكلام على البسملة: وَحَكى أبو القاسم الهُذَلِيُّ عَن مَالك أَنّه سأل نافعًا عن البسملة فقال: السنَّةُ الجهر جهرٌ بها، فَسَلَّم إلَيه وَقاَلَ: كلُّ عِلمٍ يُسأَلُ عَنه أهلُه [7] اهـ
الفَصلُ الرّابعُ: في فَضَائلِ سُورَة الواقِعَة
16- قَالَ مَسروقٌ: “مَن أرَادَ أنْ يَعلمَ خَبرَ الأوّلينَ والآخرينَ، ونَبَأَ أهلِ الجَنّة، ونَبَأَ أهلِ النَّار، ونَبأَ أهل الدّنيا، ونَبَأَ أَهلِ الآخِرَةِ، فَليَقْرَأْ سورَة الواقعة”. نقله الصاوي عن الجلالين. وفي تفسير النيسابوري: رَوى جمعٌ من المفسّرينَ أنَّ عثمانَ بنَ عَفَّانَ دَخلَ عَلى ابن مسعودٍ في مَرضه الذي مات فيه فقال له: ما تشتكي؟ قَال: ذنوبي. قال: ما تشتهي؟ قَال: رحمةَ ربِّي. قال : أفلا ندعو الطّبيب؟ قَالَ: الطّبيبُ أمْرَضَنِي. قال: أفلا نأمر بعطائك؟ قالَ: لاَ حاجَةَ لي فيه. لا حاجةَ لي فيه. قال: تدفعه إلى بَنَاتِك. قال: لا حاجَةَ لَهنّ فيه. قد أمرتهنّ أنْ يَقْرَأْنَ سورَةَ الواقعة. فإنّي سَمعتُ رَسولَ الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقول: “مَن قَرَأَ سورَة الواقعةِ، كُلَّ يَومٍ لَم تُصِبْهُ فَاقَةٌ”. اهـ.
17- وفي تفسير الألوسي: "وجَاء في فضلها آثارٌ. أخرَجَ أبو عبيدٍ، في فضائله، وابن الضريس والحرث بن أبي أسامة وأبو يعلى وابن مَردَويه والبيهقيُّ في الشُّعَبِ [8] عن ابن مسعود قال: سَمعتُ رسولَ اللهِ، صَلّىَ الله عليه وسلّم، يقول: مَن قَرَأَ سورَةَ الواقعة كلَّ ليلةٍ، لَم تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا. وأخْرجَ ابنُ عَسَاكرَ، عَن ابنِ عَبَّاسٍ نَحوَه مرفوعًا.
18- وَأخْرَجَ ابنُ مَردَوَيْهِ، عَن أَنَسٍ، عَن رَسول الله، صَلَّى الله عليه وسلّم، قَالَ: سُورَةُ الوَاقعَة الغِنَى، فَاقْرَؤوهَا، وَعلّموها أولادَكُمْ“. وأخْرجَ الديلميُّ عنه مرفوعًا:”عَلِّموا نِساءَكُم سورَةَ الواقعة، فإنَّهَا سورَةُ الغِنَى". اهـ. وفي هذا القَدرِ كِفايَةٌ لِبَيَانِ فَضَائِل هَاته السّورَةِ، وإنْ كَانَ كلُّ حَرفٍ مِنَ القرآن يَعدلُ الوجودَ بِأَسْرِهِ.
الفَصلُ الخَامِسُ: في تَفسِير الصّوفيّة للقرآن الكريم:
19- بِمُنَاسَبَة مَا فسّرناه من بعض آيَاتِ هَاته السّورةِ عَلَى الطّريقة الصُّوفيّة [9] باقتراح مِن بَعض الأحبّة أثْبَتنَا هَذَا الفَصْلَ لِيَرَى القارِئُ الكَريمُ أَنّنَا لَسْنَا أَوّلَ مَنْ سَلَكَ هَذَا السَّبيلَ بَل تَقدّمَنَا في ذلك أئِمّةٌ أعْلاَمٌ [10] ، ولاَ خَيرَ فيمن لَيسَ لَه دَليلٌ. وكلّ خير في اتباع من سلف. ولذلك نقول، قَالَ الألوسي [11] في تَفسيره: “وممَّا يؤيّدُ أنّ للقرآنِ ظَاهرًا وباطنًا مَا أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحَّاك عن ابن عباس قال: إنَّ القرآنَ ذُو شُجونٍ وفنونٍ، وظُهورٍ وبُطونٍ، لاَ تَنقَضي ولا تُبَلَغُ غَايَتُهُ، فَمَن أوْغَلَ فيه بِرفْقٍ نَجَا، ومَن أوغَلَ فيه بِعُنْفٍ هَوَى (أي سقط). أخبارٌ وأمْثَالٌ وحَلاَلٌ وحَرَامٌ ونَاسِخٌ ومَنسوخٌ، وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ وظَهْر وبَطنٌ. فَظَهْرُه التّلاوةُ وبَطنه التّأويل فجالسوا به العلماء وجانبوا به السّفهاء”.
20- وقَال الألوسي أيضًا: “فَلا يَنبَغي لِمَنْ لَه أدْنَى مُسْكَةٍ (أي ذَرَّة أو قليل) من عَقلٍ بل أدْنَى ذرَّةٍ من إيمانٍ أنْ يُنْكِرَ اشتمالَ القرآن على بَوَاطنَ يُفِيضُهَا المَبدأُ الفَيَّاضُ عَلَى بَواطن مَن شَاءَ من عِبَادِه” اهـ.
21- وقَالَ الألوسي أيضًا: “فَالإنْصَافُ كلَّ الإنْصَافِ التسليمُ للسَّادة الصوفيّة، الذين هُم مَركَزٌ للدَّائرة المحمَّديّة، مَا هم عليه وإتمامُ ذِهْنكَ السَّقيم فيمَا لَم يَصلْ لِكَثْرَة العَوَائِق والعَلائِق إلَيْه”.
وإذَا لَم تَرَ الهِلاَلَ فَسَلّْمْ *** لِأُنَاسٍ رَأوْه بالأَبْصَار.
22- وقَال الأستاذُ مُصطفَى صَادق الرَّافعي في كتابِه إعجازُ القُرآن والبَلاغَة النَّبَويَّة ما نصّه: “ولَكنْ لِبَعض المُحَقِّقينَ من مَشايخ الصوفيَّة دَقائقُ في التّفسير لا تَتَّفقُ لِغَيْرهم، لِسُمُوِّ أَرْواحِهم ونُورِ بَواطِنِهم، ومِنهم كان الإمام السّلطان الحنفي صاحب المقام المشهور في القَاهِرَة، سَمِعَه يومًا شَيخُ الإسلام البلقيني يفسر آيةً فقال: لَقَد طَالَعتُ أربعينَ تَفسيرًا فَمَا وَجَدتُ فيها شيئًا من تلك الدقائق اهـ. [12]”
23- هَاته جُملةٌ كَتبنَاهَا ولو أردنا أن نَكتب أسماءَ مُفَسِّرِي القُرآنِ بِطَريق الإشارة لَطالَ بنَا المَقالُ. وقد يُغْنِي عَن التَّطويل الاختصارُ والإجمالُ. وبالله التّوفيق. وعليه الاعتماد في بلوغ المراد.
24- سورة الواقعة. السّورة هي المَنْزِلَةُ مِن مَنَازل الارتِفَاع قال النّابغة:
ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ أعْطَاكَ سورَةً *** تَرى كلَّ مَلَكٍ دونَهَا يَتَذَبْذَبُ
بِمَعنَى أنَّ اللهَ أعطاك منزلةً مِن مَنازِل الشَّرَفِ قَصُرَتْ عَنْهَا مَنازل الملوكِ.
25- والوَاقِعَة اسمٌ لِهَاتِهِ السُّورَةِ، أُخِذَ مِن مَطلَعَهَا، سُمِّيَتْ به كَمَا أُخِذَت أسماءُ كَثيرٍ منَ السُّوَرِ: مِثلَ سورة الأنفالِ فَاتحتُهَا يَسْأَلونَكَ عَن الأنفال، وسُورَة الإسراء فَاتِحَتُهَا: سُبحَانَ الذي أسْرَى بِعَبده ليلاً. وسورة طه وسورة المؤمنون فاتحتها قد أفلح المؤمنون، إلى غَيرِ ذلك.
26- تِتِمَّةٌ: لاَ خلافَ بَيْنَ العُلَمَاءِ في أَنَّ تَرتيبَ آياتِ السُّوَر توفيقيٌّ بأمْرِ رَسولِ الله، صلّى الله عليه وسلّم. وأمّا تَرتيب السّور نَفسها عَلَى هَذا النّسق الذي نَقرأه اليومَ فهو نَسَقُ سَيِّدِنَا زَيْدٍ بنِ ثَابِتٍ، رَضيَ الله عنه، لِمَا أَمَرَه أبو بكر الصدّيق بجمع القرآن. وأصْلُه رَأيُ عُمَرَ بن الخَطَّاب، أَلَحَّ به عَلَى أبي بكرٍ فَكانَ فيه الخيرُ الكثيرُ والحمدُ لله. وهذا التّرتيب في السّور هو بعينه تَرتيب المُصْحَفُ الإمامُ، مُصْحَفُ سيّدنا عثمانَ، رضيَ الله عنه، الذي أبْقَاهُ بالمَدينة المُنَوَّرَة. وهَذَا التّرتيب هو الذي رَضِيَهُ رَسول الله، صَلّى الله عليه وسلّم. وكيف لا يَرضَى تَرتيبَ زَيْدٍ الذي هو صاحِبُ العَرْضَة الأخيرة [13] .
27- ويُرَجِّحُ ذَلكَ مَا رُوِيَ عَن عَدِيٍّ بنِ مَالِكٍ وعَن حذيفَةَ مِن أنّه عليه الصّلاة والسّلام تَهَجَّدَ ذَاتَ لَيلَةٍ فاستَفتحَ فَقَرأ في نافلته البَقرَةَ وآل عِمرَانَ والنّساء والمائدة في أربع ركعات سورةً سورةً عَلَى هَذَا النّسق وهو الذي عَلَيْه تَرتيب زَيْدٍ.
28- وأمَّا تَقسيم القرآن ثلاثينَ جزءًا فَكانَ زَمَنَ الحَجَّاج. ومِن عَمل الحجّاج أيضًا الشَدَّةُ والمَدّة والقَطْعَة. وأمّا شَكلُ القرآن بالحَرَكَاتِ الثَّلاث والتّنوين فَمِن عَملِ أَبي الأسود الدؤلي ]سَمِعَ[ قَارئًا يَقرَأ: “إنَّ اللهَ بريءٌ مِن المشركين ورَسُوله [14]” بِكَسْرِ اللام. وبادَرَ أيضًا بِوَضْع قَواعدَ مِن عِلْمِ العَربيّة، كَانَ أَخَذَهَا عَن الإمامِ عَلِيٍّ، كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ.
29- قَالَ الله تَعالَى: إذَا وَقَعِتِ الوَاقِعَة (1)
الوَاقِعَةُ اسمٌ للقِيَامَةِ أيْ إذَا قَامَتِ القِيامَةُ، ولِثُبوتِ القِيَامَة وتَحَقُّقِها سُمِّيَتْ وَاقِعَةً. وَوُقُوعُ القِيامَة عندَ النَّفْخَة الثَّانِيَة، فَيَقوم النَّاسُ للحِسَابِ. أمَّا النَّفخَة الأُولَى فَيكونُ عِنْدَها فَنَاءُ الخَلائِق، فَالمَعْنَى إذَا قَامَت القِيَامَةُ الّتي هي ثَابِتَةٌ لاَ مَحَالَةَ وَقَوْلهُ:
30- لَيسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)
مِن لَوازِمِ القِيامَة، فَلاَ بُدَّ أَنْ يَنَتفيَ عندَهَا وُجودُ نَفْسٍ كَاذِبَةٍ. وَالوَقْعَة هي المَرَّة مِن وَقَعَ، والقِيامة تَقَعُ مَرَّةً وَاحدَةً، واللهُ عَلَى كلِّ شَيءٍ قَديرٍ. والوَقْعَة أيضًا الصَّدْمَةُ في الحَرْبِ، والقِيَامَة تَصَادُم الخَلاَئِق صَدْمَةً عَظيمَةً. قَوله: كَاذِبَة. أي مُكَذِّبَةٌ بهَا كَما كُذِّبَتْ فِي الدّنيَا. والتَّعبيرُ بِكَاذبَة دونَ مُكَذِّبَة للإشارَة إلَى أنَّ النَّفسَ المُكَذِّبَةَ بالقِيَامَة كَاذِبَةٌ في تَكذيبِهَا ومُبْطِلَةٌ فيه. والمَعنى لا يُوجَدُ نَفْسٌ مُكَذِّبَةٌ لِوَقْعَةِ القِيامَة لِعَدَم قُدرَتِهَا عَلَى التَّكذيب لشدَّةِ مَا يُصَادِمُهَا إذْ ذَاك. ثمّ إنَّ تَكذيبَ الوَاقع مَردودٌ. وقَولُه:
31- خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
مَعْنَاه أنَّ الوَاقِعَةَ تَخفِضُ أقْوَامًا وتَرفَعُ آخَرينَ، فَتَخْفِضُ مَن كَانَ مَرْفُوعًا عندَ نَفْسِه أو عنْدَ النَّاسِ بِأنْ كانَ يَرى نَفسَه أو يَراهُ النّاسُ أنَّه فِي رِفْعَةٍ وَعِزَّةٍ. ثمَّ قَد يَكونُ العَبدُ مَخفوضًا فِي الدّنيا عندَ نَفْسِه وعندَ النّاسِ وَلكنَّهُ عندَمَا تَتَحَقّقُ شَقَاوَتُه في الآخرَةِ وَيَنْزلُ بهَا إلَى الدَّرَكِ الأسْفَل، يَتَبَيّنُ أنّه كَانَ مَرْفوعًا بالنّسبة إلى هَاته الحَالَةِ، فَالوَاقعةُ قَد خَفَضْتُه، كَما أنَّهَا تَرفَعُ مَنْ كَانَ مَخفوضًا عندَ نَفسه أو مَنْظورًا بعينِ الاحْتقَار عندَ النَّاسِ، وقَد يَكونُ العَبْدُ مَرفوعًا في هاتِه الدَّار، مُعَظَّمًا عندَ النَّاسِ، ولكنَّه عندمَا تَتَحَقَّقُ سَعَادَتُه في دَارِ البَقَاء، وَيَرَى مَا أعَدَّ اللهُ لَه من النَّعيم، يَتَبَيَّنُ أنّه كَانَ مَخْفوضًا بالنّسبة لِمَا أُعِدَّ لَه في دار السّلامِ، فَالواقعة قد رَفَعَتْهُ.
32- فالحاصِلُ أنَّ الوَاقعَةَ يَظْهَرُ عندَهَا خَفْضُ مَن كَانَ مَرْفوعًا، ورَفْعُ مَن كانَ مَخْفوضًا، أَيْ مَن حَكَم اللهُ بِخَفْضِه أو رَفْعِهِ، ولَيسَ المَرفُوعُ عندَ الخَالِق هو المَرفُوعُ عندَ المَخلوقِ، أو بالعَكس. فَقد رَوى الإمامُ البَغَويُّ في كتابه مَصابيح السنّة، عَن سَهْلٍ بن سَعد قَالَ: مَرّ رَجلٌ عَلَى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَقالَ لِرجُلٍ عنده جالسٍ ما رأيكَ في هذَا ؟ فَقالَ: رَجلٌ مِن أَشرَفِ النّاس، هَذَا وَاللهِ حَرٍيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ وإنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ وإنْ قَالَ أنْ يُسمَعَ لَه. قالَ: فَسَكَتَ رَسولُ اللهِ، صَلّى اللهُ عَلَيْه وسلّمَ. ثمَّ مَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما رأيكَ في هَذَا؟ فَقَالَ: يَا رسول الله هذا رَجُلٌ مِن فُقَرَاءِ المُسْلمينَ، هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ لا يُشْفَعَ وإنْ قَالَ أنْ لا يُسْمَعَ لِقَوْلِه. فَقالَ رسولُ اللهِ، صلّى الله عليه وسلّم: هَذَا خَيرٌ مِن مِلْء الأَرْضِ من مِثلِ هَذَا" [15] .
33- فَقَد شَهِدَ رسولُ الله، صَلّى الله عليه وسلّم، أنّ هَذَا الرَّجُلَ الذي كَانَ مَخفوضًا عندَ النَّاسِ هو مَرفُوعٌ عندَ اللهِ وأنّه خَيرٌ مِمّن كَانَ مَرفُوعًا عندَ النّاسِ. وهو حُكْمٌ بالغَيْب مِن رَسولِ اللهِ، صلّى الله عليه وسلّم، إذْ أنّ خَيْريَّةَ المَخفوضِ عَلَى المَرفُوع لا يُظْهرهَا الله إلاّ عندَ الوَاقِعَة. ثمَّ أخْبَرَ عَن زَمَنِ وُقوعِ الوَاقِعَة، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
34- إذَا رُجَّتِ الأرضُ رَجًّا(4) وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا (5) فَكانَت هَبَاءً مُنْبَثًّا(6)
35- رُجَّتِ الأرضُ أَيْ حُرِّكَت كَما يُرَجُّ المَهْدُ، وأكَّدَه بالمَصْدر الذي هو قَولُه: رَجًّا. وتَنْكيرُ المَصدَر يَدلّ عَلَى التَّعظِيم والتَّهويلِ، أَيْ تُرَجُّ الأَرْضُ رَجًّا عَظيمًا هائلاً. ورَجُّهَا هَذا هو زَلزَلتُهَا التي تُخرِجُ فيهَا أَثقَالَهَا عندَ النَّفخَةِ الثَّانِيَةِ.
36- وَبُسَّتِ الجِبَالُ: فُتِّتْ فَتًّا رَقيقًا دَقيقًا إلى أن تَصيرَ هَباءً، وهوَ ما يَظهَرُ مُتَطَايِرًا مَعَ الشّمس في ضَوءِ الكُوَّةِ، وَأكّدَ بَسَّ الجِبال وفَتَّهَا بالمَصدر الذي هوَ قَولُه: بَسًّا. وقَولُه: مُنْبَثًّا أَيْ مُنْتَشِرًا. والمَعنى أنَّ الوَاقعَةَ تَكون إذا رُجَّتِ الأرْضُ وَحُرِّكَت حَرَكَةً عَظيمَةً، وَفُتِّتِ الجِبَال فَتًّا دَقيقًا، حَتَّى تَصيرَ هَبَاءً مُنْتَشِرًا، وذَلكَ بَعدَ أنْ تَصيرَ كَالعِهْنِ المَنفُوشِ [16] ، فَمَراتِب الجِبَال يَومَ القيامَةِ ثَلاثٌ: بَسُّهَا وتَفتُّتُهَا حتَّى تَكونَ كَالرّمل السَّائلِ. ثمَّ صَيرُورَتُها كالعِهْنِ المَنفوشِ أيْ كَالصُّوف الذي يُنفَشُ باليَد، خَفيفَةً، مُفَرَّقَةَ الأَجْزَاءِ. ثمَّ صَيرُورَتُهَا هَبَاءً مُنْبَثًّا مُنْتَشِرًا. وهَذَا بَعضُ مَا يَقع مِن أَهْوَال القِيَامَة. وَمِن ذَلكَ صَيرورَة النَّاس كالفَرَاش المَبثوث أيْ الطَّيْر المُنتَشِر الذي يَتَهافَتُ عَلَى النَّار. ومنهَا انْشقَاقُ السَّمَاء. ومنها ومنها.
37- وَقَد قَالَ تعالَى في سورة الحَاقَّة: “فَإذَا نفخَ فِي الصّور نَفْخَةً وَاحدَةً (13) وَحُمِلَتِ الأرضُ والجِبَال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَومَئِذٍ وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ (15)”. [17]
38- وأمّا مَا يُسْتَرْوَحُ من هَاته الآية: فَالوَاقعةُ تُحْمَلُ عَلَى فَنَاء هَذا العَالَمِ الكَوْنِيِّ، في نَظَرِ العَارفِ وانْطِوائِهِ في وُجودِ مُوجِدِه، فَهاتِه الوَاقِعَة لَيسَ لِوَقْعَتِها قِصَّةٌ كَاذِبَةٌ، بَل أَمْرهَا مُحَقَّقٌ، فَتَكونَ في نَظَر العَارفِ فَانِيةً مُضْمَحِلَّةً، مَمْحُوَّةً حَقيقَةً عندَه لا مَجَازَ فيها، إذ أنَّ أَحَدِيّة الذّاتِ تَقْتَضي فَنَاءَ سَائر الكَائِنَاتِ.
39- وفِي هَذا المَعنى يَقول أبو الحَسن الشاذلي [18]، رَضي الله عَنْه،: “إنَّا لاَ نَرَى أحدًا منَ الخَلقِ، فَهل في الوجود أحَدٌ سِوى المَلك الحَقِّ، وإنْ كَانَ ولاَ بُدَّ، فكَالهَبَاء في الهواء، إنْ فَتّشْتَهُم لَم تَجدهم شيئًا [19]”.
ونَتيجَة فَنَاء العَالَم في نَظَر العَارف هي بَقاؤُهُ بالله، فَتُسْبَلُ عَليه حُلّةُ :كنتُ سَمْعَه وَبَصَرَه الحديث [20]، عَلَى حَدّ قَول أَبي مَدينَ التّلمساني، رَضيَ الله عنه،:
فافْنَ إنْ شئتَ بَقَاءً سَرمَدًا *** فَالفَنَا يُدنِي إلَى ذَاكَ الفِنَا
فَيَكونُ العَارفُ مَرْفُوعًا إلى المُستَوى، ومَا سِواهُ مخفوضًا في أرْض السِّوَى.
وَلَمَّا كَانَ المَقصَدُ مِن القيامَة هو مُحاسَبَة الخَلائِق، وظُهُور مَرَاتِبِهم في السَّعَادَة وَغَيرهَا، قالَ تَعالَى:
40- وَكُنْتُمْ أزْواجًا ثَلاثَةً(7)
الزّوجُ يُقال للواحِدِ إذا ضُمَّ إلَى مِثْلِه أو مُقابِلِه، وهنا ضُمَّتْ ثَلاثَةُ أشْياء إلى بَعضها: أصْحابُ اليَمين وأصْحابُ الشِّمال والسّابقون. والمُرَاد بالأزْواج الأصْنافُ. والخِطاب في “كُنْتُم” للحاضِرينَ وقتَ النّزولِ أيْ وصِرْتُم أيّهَا الحَاضِرونَ كَغَيْركم أصنافًا ثَلاثَةً. والتَّعبير بِ:كَانَ، الداّلة على الماضي يُشير إلى أنَّ انْقِسامَ الخَلق إلَى الأزواج الثلاثَة حَاصِلٌ ووَاقِعٌ فِي الأزَلِ، ويُظْهِره اللهُ، تَعالى، في القِيامَة، وإنْ شئتَ قلتَ هو مِنَ التَّعبير بالمَاضي عَلَى المُسْتَقبَل لِتَحَقُّقِ وُقُوعِه. ثمّ أخَذَ في بيان الأزواج الثلاثة فَقالَ تَعالَى:
41- فأصْحابُ المَيْمَنَة (8)مَا أصْحابُ المَيْمَنَة(9) وأصْحَابُ المَشأمة(10) ما أصحاب المَشْأمَة(11) والسّابِقونَ السّابِقونَ(12)
المَيْمَنَة هي اليَمين، والخَيْرُ والبَرَكَة. وقَوله: ما أصْحَابُ المَيْمَنَة، استفهامٌ فيه تَعظيمُهُم أيْ أيُّ شيءٍ همْ، أيْ شَيءٌ عَظيمٌ، وهوَ تَعَجُّبٌ مِن حَالِهم لأنّهم بَلَغوا مَرتَبَةً عَظيمَةً في اليُمْنِ والسّعادة.
42- والمَعنى: فَالصّنف الأوّل أصحاب اليُمْنِ والخَيْرِ ومَا أدرَاكَ مَا أصْحَابُ اليُمْنِ والخَيرِ، فَإنّهُمْ في مَرتَبَةٍ عَالِيَةٍ سَنِيَّةٍ منَ السَّعَادَة وَحُسْن الحَال.
43- والمَشْأَمَة ضدَّ المَيمَنَة فَهي الشّؤم وسوءُ الحَال وقَوله: “مَا أصْحَابُ المَشْأَمَة” استفهامٌ أيْضًا فيه تَعظِيمٌ لِحالِهم في الشّؤم، أيْ أَتَدْرونَ أيَّ شيءٍ أصحابُ المَشأمة، فَهمْ شَيءٌ عَظيمٌ في شُؤْمِهِم، فَقَد نَزَلوا لِغَايَة سُوء الحَال، حَتَّى صَارُوا يُسْأَلُ عَنْهُم وَيُتَعَجَّبُ مِن حَالِهم فَهُمْ في مَرتَبَة دَنِيَّةٍ للغاية.
44- والمَعنى وأصْحَابُ الشّؤم ومَا أدراكَ مَا أصحابُ الشّؤم الذين نَزَلوا بِشُؤمِهِم إلى أَسفَلِ سَافلينَ. والسَّابِقونَ هم الذين تَقَدَّمُوا غَيرَهم وغَلَبوهُمْ فَكانوا في الصفِّ الأوّلِ وَهُم الذين سَبَقُوا إلى فِعْلِ الخَيْرَات واكتِسابِ الفَضَائِل وسَارَعُوا إلَيْهَا. وهم السّابقون إلى تَحصيل المَراتِب والدَّرَجات.
45- وفِي وَصْفِهم بالسَّبْقِ والتَّقَدُّم والمُسَارَعَة إلى الخَيرات والتَّحصيل عَلَى الدّرجات مَا فيه من التَنْويه بشأنهم والتعظيم لَهم ويكفيهم أنّهم سَبَقُوا وتَقَدّموا أصحابَ اليَمين المُتَعَجَّبِ مِن حَالِهم.
46- وفِي تفسير “السّابقين” أقوالٌ للمُتَقَدِّمينَ، رَضيَ الله عنهم، فَقدْ قَالَ ابن عباس، رَضيَ الله عنهما،: والسَّابقون إلى الهجرة السابقون في الآخرة إلى الجنّة [21]. وقيل السابقون إلى الإسلام. وقيلَ: السَّابقونَ الذين صلّوا إلى القِبْلَتَيْن مِنَ المُهاجرينَ والأنْصار [22]. وقيلَ هم السّابقون إلى الصّلوات الخَمْس [23]. وقيل هم السّابقون إلى الجِهاد [24].
47- ومَا ذَكرنَاه من كَونهم هم السابقون إلى فِعلِ الخَيرَاتِ أعمُّ وأشْملُ، ومَهْمَا أمْكَن حَمْلُ الآيَة عَلَى مَا هو أعمُّ كَانَ ذلكَ أَوْلَى، وبِه فَسَّرَها النَّسفِي وغيره. وأخّرَ السابقينَ في التقسيم لأجل أنْ يُوصلَ بهم مَا مَنَحَهم به من القُرْبِ في جَنَّاتِ النَّعيم ولذلك قَالَ:
48- أولئِكَ المُقَرَّبونَ(13) فِي جَنَّاتِ النَّعيمِ(14)
فَأصْحابُ اليَمين فِي جَنَّاتِ النَّعيم عَلى كلِّ حالٍ، ولكنَّ السَّابقينَ همُ المُقَرَّبونَ. وفِي الإتيانِ بالمسند إليهِ “أولئكَ” - اسمُ إشارةٍ عائد على السابقين- مَا فِيه من تَعظيمِ حَالِهم كَأنّهم، لِعُلوِّ شَأنِهم وارتفاع دَرَجَاتِهِمْ، في مَنزِلَةٍ بَعيدَةٍ، أيْ أولئكَ الذين بَلَغوا مَا بَلَغُوا من السَّبْقِ عَلَى غَيْرِهِم هُمُ المُقَرَّبونَ في جَنّاتِ النعيم. وفِي ذِكر “جَنَّات” بِلَفْظِ الجَمع دَلالةٌ عَلَى تَضاعُف نَعيمِهم، وكَثْرَتِه ويَكفيهم نعيمًا وتَكريمًا أنَّ الباري، جلّ شَأنُه، قرّبهم وأضافَ تَقْريبَهم له، أيْ أولئكَ الذينَ قَرَّبَهُم مَولاهم جلَّ شأنُه، إلَى مَقامَاتٍ لا يَكشِفُ عَنهَا المَقالُ.
49- قالَ النيسابوري في تفسيره: والعارفونَ يَقولونَ لَهم إنَّهُم أهلُ الله. اهـ [25]. ثمّ أخبر عن وجودِ السّابقينَ في الأوَّلينَ والآخِرينَ فَقالَ:
50- ثُلّةٌ مِنَ الأوَّلينَ(15) وقَليلٌ من الآخِرينَ(16)
أيْ إنَّ السَّابقينَ ثلّة من الأوّلينَ الخ. والثُلَّةُ: الأمَّةُ الكَثيرَةُ مِنَ النَّاس. والأوَّلونَ: قيلَ: هُم الأمَم مِن لَدُنِ آدَمَ إلَى نَبِيّنَا محمَّدٍ، صَلّى الله عليه وسلّمَ. والآخِرُونَ هم أمَّة محمّد عليه الصّلاة والسّلام. وقيل: الأوَّلونَ هم المُتَقَدّمونَ من هذه الأمّة والآخِرون هم متأخِّروهَا، وهو قول مجاهد والضحاك حكاه النيسابوري في تفسيره، وفِي تفسير الألوسيّ. وقال أبو حَيان: جَاء في الحديث الفرقتان في أمّتي فسابق أول الأمة ثلة وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل. اهـ [26].
51- وعَلَى هذا التّفسير الثَّانِي يَكون المَعْنَى أنَّ السَّابقينَ ثُلَّةٌ وجَماعَة كَثيرةٌ من مُتَقَدِّمي هَاتِه الأمّة وقليلٌ من مُتأخّريها، ولا شكّ أنّ الأصْحابَ، رَضيَ الله عنهم، كُلّهم سابقونَ إلى فِعلِ الخَيْرات، ومِثْلُهم التابِعونَ وَأمَّا المُتأخّرون فالسّابقون فيهم قليلٌ.
52- وَأَمَّا مَا يَستَروِحُهُ الخَاصَّةُ من هَاتِه الآيَة أنّه يَقول: إذَا وَقعت واقعةُ العَالَم الكَونِيِّ وامتُحَقَ خَيَالُهُ في نَظَر العَارِفِ، وَكُنتُمْ أَيْ صِرتم أَيّهَا المُتَوجِّهونَ لِحَضْرَةِ اللهِ أصْنَافًا ثَلاَثَةً. أصحابُ المَيمَنَةِ أَيْ أَصْحَابُ اليُمْنِ وَالبَرَكَةِ والأَعْمَالِ الصَّالَحةِ، الذينَ اجتَهدوا في فِعْلِ القُربَاتِ، إذْ أَنَّ مِنَ المُتَوجِّهينَ لِحَضْرَة القُدْسِ، مَنْ تَكونُ نَتيجَةُ قَصْدِه رُسُوخُه فِي التَعَبُّدِ والحِرْصِ عَلَى نَوافِلِ الخَير، وإنْ لَم يَحْصُلْ عَلَى المَعرفة الكُبْرَى والوُصُول لحَضْرَة القُدْسِ.
53- وَأصْحَابُ المَشْأَمَةِ أَي الشُّؤْم، وسُوءِ الحَال والمُنقَلَب، وَهَذَا أيضًا قِسْمٌ يَخرج عن الطَّريق الجَادّة، وَيَنْعَكسُ نُورُ بَصيرَتِهِ، فَيَكونَ ظَلاَمًا في سَريرَتِه، حَتَّى أَنّه يُنْكِرُ المَعرفَةَ التي حَصَلَتْ لَه، وَرُبَّمَا يُوَسْوِسُ لَه قَرينُه (الشيطان) أَنّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا جَاءَ به التّنزيلُ، ومَا ذَلكَ إلاَّ لِأَنَّهُ حَاقَ بِه مَكْرُ اللهِ، فَكَانَ من أَصحاب الشُّؤْمِ، وسُوءِ الحَالِ. غَيرَ أَنّ ذِكْرَهُ مُوَسَّطًا بَينَ أَصحابِ المَيْمَنَةِ والسَّابقين، يُكْسِبُه رَجَاءً في رَحمَة رَبِّهِ، عَسَى أَن يَأخذَ بِيَدِه ويَرفَعُهُ من حَضيض السِّوَى إلَى رَوضِ المُستَوى. ومَا ذَلكَ عَلَى اللهِ بِعَزيزٍ.
54- والسَّابقونَ الذين سَبَقُوا غَيرَهُم، فَحَصَلوا عَلَى مَعرفَة رَبّهم، بِأَنْ فَنَوْا عَن غَيرِه، وَبَقَوْا به، وَهَؤلاءِ هم المُقَرَّبُونَ الذينَ كَانَ لَهم الحقُّ سَمْعًا وَبَصَرًا، في جنّات النّعيم لأنّهم تَنَعَّمَت أرْوَاحُهُم أوّلاً فِي جَنَّة المَعَارِفِ، وَثَانيًا في جَنَّة الفِردَوْسِ. وَهؤلاءِ السَّابقونَ ثُلّةٌ منهم عظيمةٌ من سابقي الأمّة المحمديّة، إذْ أَنَّ صَدْرَ الأمّة غَالِبُهم، إنْ لَم نَقُلْ كُلَّهم، مِن أَهل المَرتَبَة العَالية والدّرجة السامية، فَإنّهُم جَميعًا كَانُوا في غَايَةِ الحُضُور مَعَ الحَقِّ، لاَ تَطْرُقُ سَاحتَهم طَوارِقُ الغَفلة، بَذَلوا نفوسَهُمْ لِله، يَبتَغونَ فَضْلاً، منَ اللهِ. وقَليلٌ مِن السَّابقينَ من متأخّري الأمَّةِ المُحَمَّديَّة، والحَمد لله على عدم انقطاعهم، وَهُمُ المُشَارُ لَهم بِقَوله، صَلَّى الله عليه وسلّم: “لاَ تَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قائمةً بأمر الله، لاَ يَضرّهم مَن خَذَلَهم، ولاَ مَن خَالَفَهُم، حَتَّى يَأتيَ أمرُ اللهِ، وهُم عَلَى ذَلكَ. رواه البَغَويٌّ، في مصابيح السنّة. وَبِقَوْلِه: لَن تخلوَ الأرضُ مِن أَربَعينَ رَجُلاً مثلَ خَليلِ الرَّحمَان، فَبِهِمْ تُسْقَونَ، وبِهِمْ تُرزَقُونَ، مَا مَاتَ مِنهم أحَدٌ إلاَّ أبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ الآخَرَ”.
55- ثمَّ أخَذَ فِي ذِكر ما أعدّه لكلّ صِنفٍ من الأصناف الثّلاثة وبدأ بما أعدّه للسّابقين فقال تعالى:
56- عَلى سُرُرٍ مَوضونَةٍ (17) مُتَّكِئينَ عَليْها مُتَقابِلينَ(18)
السُّرُر جَمْعُ سَريرٍ، وهو مَا يُجْعَلُ للإنْسان مِن المَقاعِد العَالِية المَوْضوعَة للرَّاحَةِ والكَرامَةِ. والمَوْضُونَة المُثَنَّى بَعضُهَا عَلَى بَعْضٍ [27] مِن: وَضَنَ الشّيءَ يَضِنُه فَهو مَوْضون و وَضين أي مُثَنًّى بَعْضُه عَلى بَعضٍ. والمَوْضونَة أيضًا المَنسوجة، تَقول: غَزْلٌ مَوْضونٌ، وَدِرْعٌ مَوضونَة أيْ مَنسوجَة. والسُّرر المَوضونة المَنسوجة بِقُضْبَان الذّهب والجَواهِر واليَواقِيتِ.
57- وقَوْلُه: مُتَّكِئينَ عَلَيْها. أيْ حَالَةَ كَونهم مُتَّكئِينَ على تلكَ السُّرُرِ. وهو يَدُلّ عَلى وُجودِ شَيءٍ زَائِدٍ، يُتَّكَأُ عَلَيْه كَالوِسادَة ونَحْوهَا، والاتِّكاءُ عَلَيْها حَالَةُ مَن بَلغَ غايَةَ الرَّاحَةِ وحُسْنَ الحَال.
58- وقَولُه: “مُتَقابِلينَ” حالٌ [28] أيْضًا أي حَالَ كَونِهم مُتَقابِلينَ، يَنْظُر بَعضُهُم فِي وُجوهِ بَعْضٍ، غَيرَ مُتَدَابِرينَ، وهَي أحْسَن هَيْأةٍ في المُجالَسَة، وذَلكَ لِحُسْنِ مُعاشَرَتِهم وغَايَة تَأدُّبِهِمْ، والتَّدَابُر فِي المُجالَسَة مِنْ أَقْبَح الهَيْآتِ لِدَلالَتِهِ عَلَى تَنَافُرِ القُلوبِ وتَبَاغُضِهَا، وعَلى سوءِ أَدَبِ المُتَجالِسينَ.
59- وَصَفَ الحقُّ، تَعالَى، السَّابِقينَ بمَا أعَدَّ لَهم مِنَ الاتِّكَاء عَلَى السُّرُرِ والتّقَابُل، وهْوَ من الإكْرَام الجَميلِ كَما أكْرَمَهُم بِما أَعَدَّ لَهم في قَولِه:
60- يَطوفُ عَلَيْهِم وِلْدَانٌ مُخَلَّدونَ(19)
أَيْ يَطوفُ عَلَى السّابِقينَ لِأجْلِ خِدمَتِهم وِلدانٌ. واخْتَلَفَ المُتقدّمونَ في هؤلاء الوِلْدان عَلَى أقْوالٍ ثَلاَثَةٍ: القول الأوّلُ: هُم أوْلادُ الكفّار الذينَ يَموتونَ قَبْلَ التَّكْليفِ لِمَا في الحَديثِ: “أوْلاَدُ الكفّار خُدَّامُ أَهلِ الجَنّةِ [29]”. ذكره النَّسَفِيُّ في تفسيره [30]. وهَذَا القَولُ في أولاد الكفّار هو الصّحيح الذي ذَهَبَ إلَيه المُحَقِّقونَ [31]. وقيلَ: إنَّهمْ في النّارِ تَبَعًا لآبائِهِم وإلَيْه ذَهبَ الأكثرونَ [32]. وتَوَقَّفَ طائِفَةٌ [33]. ذَكرَ الأقوالَ الثَّلاثَةَ الخازنُ في تَفسيرِه.
61- القَولُ الثّاني: الوِلدَانُ المُخَلَّدونَ هُم وِلدَانٌ خُلِقوا فِي الجَنَّةِ لِخِدْمَةِ أَهلِهَا، ولَيسوا مِن وِلدَانِ الدُّنيَا، وهَذا القَولُ هو الصّحيحُ. وعَلَيه فَيكونُ مَعنَى كَونِهِم ولْدَانًا أنّهم عَلى شَكْلِ الوِلدَانِ، وخُلُودُهم عَدَم تَغَيُّرِهِمْ بالهَرَمِ ونَحْوه كَما يَتَغَيّرُ أولادُ الدّنيَا.
62- القول الثّالث: الوِلدَانُ المُخَلَّدونَ هُمْ أولاَدُ المُؤمِنينَ الذينَ مَاتُوا قَبْلَ التَّكْلِيف. قَالَ الخَازن: “وفِيه ضَعْفٌ لأنَّ اللهَ أخبرَ أنّه أَلحَقَهُم بآبائِهم في قوله تَعالَى:”والذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُم ذُرّيتُهم بإيمانٍ ألْحَقنَا بِهم ذرّياتهم وما ألَتْنَاهم من عملهم مِن شَيءٍ“ [34]. والمَعنى: والذينَ آمَنوا واتَّبَعَتْهُم ذُرِّيَتُهم كبارًا أو صغارًا بِسَبَبِ إيمانٍ عظيمٍ عندَ الآبَاء أَلحَقنَا بهِم ذُرّيَاتِهم فَكَانوا في دَرَجَاتِهم وإنْ لَم يَعمَلُوا بِعَمَلِ آبائهم تكريمًا للآباء وتَفَضُّلاً منه، سُبحَانَه وتَعالى، عَلَى الأبْنَاء. وقَوله:”ومَا ألَتْنَاهم" أي ومَا نَقَصْنا مِن عَمَلِ الآباء مِن شَيءٍ أعْطَينَاه للأبْنَاء.
63- وقَد قَالَ بَعضهم في هاته الآية: لَفظ الذُرِّيَة شاملٌ للآبَاء والأبْناء، وعَلَيْهِ فَكَما يَلْحَقُ الأبْنَاء بالآباء كذلك يَلْحَق الآبَاءُ بالأبناء، وإنْ كانَ عَمَلُ الآباءِ دونَ عَمَلِ الأبْناء. قَد نَقلَ العَلاَّمةُ الجَمَل في حاشيته على الجَلالين عَن القُرطبيّ: أنّ ابنَ عَباسٍ، رَضي الله عنهما، قَالَ: إنْ كَانَ الآبَاءُ أرْفَعَ دَرَجَةً رَفَعَ الله الأبناءَ إلى الآبَاءِ، وإنْ كَانَ الأبْنَاءُ أرفَعَ دَرَجَةً، رَفَعَ الله الآبَاءَ إلى الأبْنَاء. وعَنِ ابن عبّاس أيضًا، يَرفَعه إلى النّبيء، صلّى الله عليه وسلّم، قَالَ: "إذَا دَخَلَ أهلُ الجَنّةِ الجَنَّةَ سَألَ أحدُهم عَن أَبَوَيْهِ وعَن زَوجَتِه وَوَلَدِهِ فَيقالُ :إنَّهم لَم يُدْركوا مَا أدْرَكتَ. فَيَقول: يَا ربّ، إنّي عَمَلتُ لي ولَهم.
64- واعلمْ أنَّه كَمَا تَلحقُ ذُرّيَةُ النَّسَبِ كَذلكَ تلْحق ذرّيةُ السَّبَبَ، وهوَ المَحَبَّةُ، فإنْ كَانَ مَع المَحبّة أَخْذُ عِلْمٍ أو عَمَلٍ كانَت أجْدَرَ، فَتكونَ ذُرِّيَة الإفَادَةِ كَذُرّيَةِ الوِلاَدَة. نَقَله العَلاَّمة الجَمَل عن الخَطيبِ. وقَولُه تَعالَى:
65- بِأَكْوَابٍ وأباريقَ وكَأْسٍ من مَعِينٍ(20)
الجَارُّ والمَجْرورُ يَتَعَلَّقَانِ بِقَوْله: يَطوفُ. وَالأكْوابُ جَمْعُ كوبٍ وهوَ القَدَحُ الذي لا عُرْوَةَ لَه ولا خُرْطومَ. وَالأبَاريقُ جَمْعُ إبْريقٍ وهو القَدَحُ الذي لَه عُرْوَةٌ وخُرطُومٌ. والكَأْسُ هِي القَدَحُ الذي فيه الشَّرَابُ، وإنْ لَمْ يَكن فِيهِ الشَّرَابُ فَليسَ بِكَأْسٍ. وقَولُه: “مِن مَعينٍ” بَيَانٌ للكَأْسِ أيْ مِن خَمْرَةٍ جارِيَةٍ. والمَعْنَى يطوف الوِلْدَانُ المُخَلّدونَ عَلَى السَّابقينَ بأكْوَابٍ وأبَاريقَ مَمْلُوءَةٍ بأنْوَاعِ المَشْروبَات التي أَعَدَّهَا اللهُ لَهم في دَار النّعيم، وبِكَأسٍ من خَمْرٍ جَاريَةٍ. وإنَّمَا اقتَصَرَ عَلَى التَّصريح بالخَمْرِ الجَاريَة دَونَ غَيْرهَا مِن بَقِيَّةِ المَشروبات لِمَا للعَرَبِ إذَّاكَ مِنَ الشَّغَفِ بالخَمْر والوُلوعِ بهَا، فَصَرَّحَ بهَا تَرغيبًا لَهم فيهَا يُوصِلُهم لِشُرْبِهَا في الجَنَّة وهوَ الإيمَانُ والعَمَلُ الصَّالِحُ.
66- وقَولُه تعالى: لاَ يُصَدَّعونَ عَنهَا وَلاَ يُنْزَفُونَ(21)
الصُّدَاعُ يُطْلَقُ عَلى الدّاء المَعْروفِ وعَلَى التَفَرُّقِ والتَّشَتُّت. والنَّزْف بِسكُونِ الزَّاي ذَهَابُ العَقْل. والمَعْنَى لاَ يَحْصُلُ لَهمْ مِنْ شُرْبِهَا دَاءُ الصُّدَاعِ ولاَ دَاءُ التَّفَرُّقِ والتَّشَتّتِ ولاَ ذَهابُ عَقْلِهم، بَلِ الأمْرُ بِالعَكْسِ فِي خَمْر الجَنَّةِ فَيَحْصُلُ لِمَنْ شَرِبَهَا رَاحَةٌ بَدَنِيّةٌ وسَلامَةٌ قَلْبِيّة وَكَمَالٌ في العَقْل.
وَوَصْفُه لِخمْر الجَنّة بذلك للتَّعريضِ بِخَمْر الدّنْيَا، فإنَّ شُرْبَهَا يُثيرُ كُلَّ دَاءٍ بَدَنِيٍّ، ويَهْدمُ شَرَفَ الإنسانيّةِ بذَهَابِ العَقل والمَالِ والدّينِ. حَفِظَنَا اللهُ والمُسْلمينَ. وقوله تعالى:
67- وفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرونَ(22)
مَعطوفٌ عَلى المَجْرورِ قَبْلِهِ وكَذلكَ قَولُه:
68- ولَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ(23)
الفَاكِهَة الثّمارُ كُلّهَا. والفَاكِهَة كُلُّ مَا يُتَنَعَّمُ بِه فِي الأَكْلِ. وتَنْكير فَاكِهَةٍ لِتَعْظِيمِهَا والمَعْنَى ويَطوفُ عَلَى السَّابقينَ وِلْدانٌ مُخلّدونَ بِفَاكِهَةٍ عَظيمَةٍ طَيِّبَةٍ مِمَّا يَتَخَيّرونَ، ولَحْمِ طَيْرٍ ممَّا يَشتَهونَ ويَتَمَنّونَ. ومِن إكْرَامِ اللهِ لَهم أنَّهُ أَسْنَدَ لَهُمُ التَّخَيُّرَ فَجَعَلَهم يَتَخَيَّرونَ لِأنْفُسهمْ ومَا ذَلكَ إلاّ لِأنَّ البَاري جَلَّ شَأْنُهُ أرَادَ مَا يُريدونَ.
69- وقَولُه تَعالى: وَحُورٍ عِينٍ(24) كَأَمْثَالِ اللّؤلؤِ المَكْنُونِ(25)
مَعْطوفٌ عَلى قَولِه: وِلدَانٌ. والحُورُ جَمْع حَورَاءَ، مُؤَنّثُ أَحْوَرَ، وهْوَ مَنِ اشْتَدَّ سَوادُ عَيْنِهِ وبَيَاضُهَا. والعِينُ، بِكَسْر العَيْنِ، جَمْعُ عَينَاء، مُؤَنَّثُ أَعْيَنَ وهو مَن اتَّسَعَت عَينُه وَعَظُمَ سَوادُهَا. والعَيْنُ بهاتِه الصِّفَةِ أَعْلَى مَا يَتَجَمَّلُ بِه الإنْسَانُ، وَأحْسَنُ مَا تَميلُ إلَيْهِ النَّفسُ. والحُورُ في لِسَان الشَّرعِ نِسَاءٌ أَنْشَأَهُنَّ اللهُ فِي الجَنَّةِ لِيَتَمَتَّعَ بِهنّ أَهْلُها.
70- وقَولُه: كَأمْثَالِ اللّؤْلؤِ المَكْنونِ: أيْ يُشْبِهنَ الدُرَّ المَخزونَ الذي لَم تَمَسَّهُ الشَّمسُ ولَم تَلفَحْهُ الرِّيحُ ولَمْ يُغَيّرهُ الهَواءُ فَهْوَ فِي غَايَةِ الصَّفاءِ. والمَعنى: ويَطوفُ عَلَى السَّابقينَ أيضًا حُورٌ عِينٌ بمَا ذَكرَ مِن أنْوَاعِ المَشْروبَاتِ والمَأكولاتِ والفَاكِهَةِ وبِأنْواعٍ أَخَرٍ لاَ تُعَدُّ ولا تُحْصَى، وفي طَوافِ حُورِ العِينِ عَلَيْهِم مَا فِيه مِن التَلَذّذِ والتّنعّم. فَهم يَتَنَعّمونَ ويَتَلَذّذونَ بجَميعِ أنْوَاع النَّعيمِ واللذّاتِ ويَحْتَملُ أنْ يَكونَ قَولُهُ: وحُورٍ عِينٍ مُبْتَدَأٌ مَحذوفُ الخَبَرِ، والتّقديرُ ولَهم حُورٌ عِينٌ لِأجْل التَّمَتّع بِهنّ، فَذَكَرَ أوّلاً تَنَعُّمَهُمْ بالمَشروبات ثمّ بالمأكولات ثمّ بالمَنكوحَاتِ.
71- ثمَّ اعْلَمْ أنّه لا يَلزَمُ من تَشبيه الحُور العَيْنِ باللّؤلؤ المَكنُون أنْ يَكونَ هو أصْفَى منهَا إنّما جاء التَّشبيهُ عَلَى حَسَبَ مَا يَرَى النّاسُ أنَّه أصْفَى الأشياء في هاته الدّارِ، وإلاّ فَالحورُ العِينُ مِنَ الأمورِ الأخرَويّة وهي أبعدُ شَيءٍ يَتَنَاوَله تَصَوُّرُ الفِكر البَشريِّ الذي اعتَادَ تَصوّرَ المحسوسات الكونيّة. ولذلكَ رَوىَ البَغَويُّ ونَقَلَه العلامَة الجَمَلُ: إنَّه يَسطَع نُورٌ في الجنّة فَيَقولونَ مَا هَذَا فَيُقالُ ثَغْرُ حَورَاءَ ضَحكَت في وَجْهِ زَوجِهَا. وكَثيرٌ في القرآن مثلُ هذا التشبيه. واعْتَبِرْ تَشبيهَ النّورِ القَديم بِمِصبَاحٍ في مِشْكَاةٍ في قَوله تعالى: “كَمِشْكَاةٍ فيهَا مِصْبَاحٌ [35]”. الآية وقوله تعالى:
72- جَزَاءً بمَا كَانُوا يَعْمَلونَ(26)
مَنْصوبٌ عَلَى أنّه مَفعولٌ لِأجله، أَيْ أعْدَدنَا لَهم جَميعَ مَا تَقَدَّمَ وغَيرَه مِمَّا لَم نَذكُرْهُ لِأجْلِ أَن نُجازيهِم بالذي كَانُوا يَعمَلونَه فِي الدّنيَا ويَقومونَ به مِن أَنْوَاعِ العِبَادَات والقُرُبَاتِ.
73- فَإنْ قُلتَ: كَيفَ يُجمَع بَينَ هَاته الآيَة وبَينَ قَولِه، صَلّى الله عليه وسلّم: “لَن يَدخُلَ أحَدٌ الجَنّةَ بِعَمَلِه. قَالُوا: ولاَ أنْتَ يَا رَسولَ اللهِ؟ قَالَ: ولاَ أنَا، إلاّ أَنْ يَتَغَمَّدنِي الله بِرَحْمَتِه” [36]. فالآيَةُ تَقْتَضِي أنَّ دخولَ الجَنّة والتّلذّذَ بأنْوَاع النَّعيمِ كَانَ جَزَاءً عَلَى الأعْمَال. والحَديثُ يَقْتَضي أنْ لاَ دخولَ للجَنّةِ أصْلاً إلاّ بِرَحْمَة الله، تَعَالَى وفَضلِه. قُلتُ: أَصْلُ العَمَل الصّالح الذي يُوَفَّقُ العَبْدُ إلَيْه هُو بِرَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وفَضْلِه، وجَعْلُ هَذَا النَّعيمِ المَخْصوصِ جَزَاءً عَلَى ذَلكَ العَمل المَخْصُوصِ الذي ربّمَا كَانَ مَعْلُولاً مَدخُولاً إنّما هو بِرَحْمَةِ الله وفَضلِه، وإسْنَادُ العَمَلِ للعَبْدِ بِرَحْمَة الله وفَضْلِه.
74- وفي بَعْضِ الحِكَم: “مِنْ نِعْمَتِه عَلَيكَ أنْ خَلَقَ ونَسَبَ إلَيكَ” [37]. فالباري جلّ شأنه خالق الذوات والصّفات والأفعال. “واللهُ خَلَقَكم ومَا تَعْمَلونَ” [38]. فَفي الحَقيقَة لَيسَ هناكَ إلاّ رَحْمَةُ الرَّحيم التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ. فَلاَ مُنَافَاةَ بَينَ الآيَة والحَديثِ، 74- والبَشِيرُ النَّذيرُ مُبَيِّنٌ للقُرآنِ. “وأنْزَلْنَا إلَيكَ الذّكرَ لِتُبَيِّنَ للنَّاسِ مَا نَزَلَ إلَيهِم” [39].
75- وَعَلَى هَذَا النَّمَط تَجري بَقِيّةُ الآيَاتِ التي تَدَلُّ عَلَى أَنَّ للعَمَلِ تَأثيرًا في نَيْلِ الجَزَاءِ، واللهُ المُوَفِّقُ. وبَعدَ أنْ أثْبَتَ للسَّابِقينَ مَا أَثْبَتَ لَهم مِنَ التَّنَعُّمِ نَفَى عَنهم مَا يُكَدِّرُهُم فَقَالَ تَعَالَى:
76. لاَ يَسْمَعونَ فيهَا لَغْوًا ولاَ تَأثيمًا(27)
اللّغْوُ: الكلامُ الذي يُرغَبُ عَنه، من الباطِلِ وغَيْرِه. والتّأثِيم هو قولك لِغيركَ: أَثِمتَ لارتكابِهِ مَا لا يُباح لَه شرعًا. والمَعنى أنّهم لا يَسمَعونَ لَغوًا من الكلام المُسْتَقْبَحِ والحَديثِ الذي تَرغَبُ النُّفوسُ الكَريمَةُ عَنْه. وقد قَال تَعالى في مَدح عِبادِ الرّحمان: “وإذَا مَرّوا باللّغْوِ مَرّوا كِرامًا [40]”. فَسَمَاعِ اللّغْوِ يُؤْذي القلوبَ لذلكَ نَفَاه عَنهم البَاري جَلَّ شَأنُه. ولا يَسمعون مِن بَعضهم إثمًا لأنَّه لاَ إثمَ في الجَنّة، بَل جميعُ ما فيهَا مُباحٌ مُهَيَّأٌ لَدَيهم، وفيهَا مَا تَشْتَهيه الأنفس وتلذّ الأعينُ. فلا تَقييدَ في نَعيم الجَنّة إذ لاَ تَكليفَ هناكَ، إنّمَا هي دَارُ جَزاءٍ، والعَمَلُ بالتَّكَاليفِ الشّرعيّة يَنقَضي بانقضاء الدّنيا، فالدّنيا دَارُ عَمَلٍ والأخْرَى دَارُ جَزَاءٍ. وقوله تعالى :
77. إلاّ قيلاً سَلامًا سلامًا(27)
اسْتِثنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لأنَّ قَولَ السّلام لَيسَ من جنسِ اللّغْوِ والتّأثيم، أي لكن يسمعون قولا سلاما سلامًا أي سلامًا بَعدَ سلام، فَيُسَلِّمونَ عَلَى بَعضهم لتَحابِّهِم وائتِلافِهم، ويُسَلِّمُ عَلَيهم الباري، جَلَّ شَأنه، تَشريفًا وتكريمًا، وقد أتَمَّ البَاري عَلَيْهم نِعَمَهُ بالمَشْروبات بالأكواب والأباريق وغَيرهَا، وبالمأكولات بالفواكه المُخَيَّرَةِ، ولَحْمِ الطَّيْر المُشْتَهَى وغير ذلك، وبالمَنكوحَات بالحُور العِينِ، وبالمَسْموعَات بالقول السَّلام مِن بَعضهم ومن الملائكة ومنه تَعالَى عَلَى مَا يَقتَضيه الإطلاق. وأمّا تَنَعُّمِهم بِرؤية جماله فقد أشار له قَبلُ بِقوله: “أولائك المقرَّبونَ في جَنَّات النَّعيم” فَكَفاهُم أنْ جَعَلَهم مُقَرَّبينَ والمُقَرَّب عند المَلكِ لاَ يَحْجُبه عَنه ولا يَمنَعُه منه. “وجُوهٌ يَومَئِذٍ نَاضِرة إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ” [41].
78. وَأمّا مَا يَستَرْوِحُه [42] الخَاصَّة، فَإنَّ السَّابقينَ لمَّا دَخَلوا جَنَّةَ الوِصَال وتَمَتَّعوا بالنّظر إلى ذِي الجلال، جَلَسوا على سُرُرِ المَعْرِفَة وحَقائِقِ التَّوحيد، وَكَانَت تلك السُّررُ مَوضونَةً أيْ مَنْسُوجَةً بالأدلَّةِ الثَّابتَة، أَدلَّةِ الكِتَابِ والسُنَّة المَعصومَيْنِ مِنَ الخَطَأ، مُتَقابِلينَ عَلَى سُررهم بِوُجوهِهِمْ وقُلُوبِهِم، لا يُدْبِرونَ عَن بَعضِهم لِحصول رَابطَة المَحَبَّة بَينَهم.
79. وَيَطوفُ عَلَيهم مَلائكة الإلْهَام بِأقْدَاح العلوم والأذواق والفُهوم على اختلاف أنواعها: فَتَارَةً تَفيض من أكوابِ وأبَاريقِ المَظَاهِر الكَونِيَّة، فَتَكونَ تلكَ المَعرفة مَمْزوجَةً، وتَارَةً تَتَدَفّقُ تلكَ المَعرفة صافيَةً مِن الغَيْرِيَّة، فَتَكونَ في كَأس مِن مَعينِ التَّوحيد الجَاري الذي يكون قَريبَ العَهد من ربّ العالمين.
80. وَلاَ يَحصل لهؤلاء السّابقين عَن شُرب هاته الخمرة الإلهيّة والمَعرفة التوحيديّة دَاءُ صُدَاعٍ ولاَ نَزْفُ عُقولهم وذهابُها كما يَتَوَهَّمه مَن لَم يَذُقْ طَعمَهَا، بَل لا يَزيدُهم شُربُها إلاّ فَتحًا مُبينًا، وعَقلاً مَتينًا، مُحيطًا بالمَظَاهِر الكَونيَّةِ والعَوالِم الخَلْقيّة، بَعدَ أَنْ كَانَ مُقَيَّدًا بالكَثائف، مَمنوعًا مِن التَمتّع برياض اللطائف، مَحْجُوبًا بالظّاهر عَن الباطن، أو نَقول بالحسّ عن المَعْنَى، وإنْ شئتَ قلتَ: مَحْجوبًا بالخَلقِ عَن نُورِ الحَقِّ. انبَثَقَ لَهم نُورُ حَضْرَة القُدس، فَغَيَّبَهم عن عَالم الحِسّ، وزجَّ بهم في رياض الأنْسِ، فَصَاروا يتفكّهون بالمناجَاة تَارَةً، والمُشَاهَدَة أخرى، يَتَمتّعون بحور حَضْرة الجَبروت. كلُّ حَورَاءَ كلؤلؤة مكنونة ودرّة مَخزونة.
81. كَيفَ لاَ، وقَد صَار الحَقُّ سَمعَهم وبَصَرَهم، فَلاَ يُبصرونَ إلاّ آياتِ الظَّاهر، مُتَجَلِّيَّةً في مرآة المَظاهر، فَكلّ مَظْهَرٍ من مظاهر الوجود يكون عندهم أجملَ من حَوْرَاءَ في الشّهود، لأنَّ الحَقَّ تَعَالَى أرَاهُم آياتِه في الآفاق فَتَبَيَّن لهم أنّه الحقّ دونَ مِريَةٍ وَلا شِقاقٍ، قَالَ تعالى: “سَنُريهِم آيَاتِنَا في الآفاق وفي أنفسهم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لهم أنّه الحقّ أو لَم يَكف بِربك أنّه على كلِّ شَيءٍ شَهِيد”. [43]
وَفي كلّ شيءٍ لَه آيَةٌ *** تَدلّ عَلَى أَنّه الوَاحدُ
82. وَأكْرَمَهُمُ الحَقُّ بذلكَ جَزَاءً بما كانوا يَعمَلونَ، كَيف لاَ، وقَد عَملوا بأحبّ ما يُتَقَرَّبُ به إلى الله تعالى، من القيام بالفرائض ثمّ مَا زَالوا يتقرّبون إليه بالنّوافل حتّى أحَبَّهم فَكَانَ لَهم سَمْعًا وبَصَرًا ويَدًا ورجلاً [44]. ولاَ يسمعون في هاته الحضرة لَغْوًا ولا تأثيمًا، ولا يَرونَه من باب أولى وأحرى وكيف يسمعونَه أو يَرَونَه والحال أنّهم غابوا عنه في حضرة الأحديَّة، لَكنَّهم يَسمعون قولاً سلامًا سلامًا، مِن حَضْرَة مَحبُوبِهم الذي اصطفاهم ولِحَضْرَتِه اجْتَبَاهُمْ، فَهُمْ عِبَادُهُ المُخْلِصونَ، فَلاَ يَتَجلَّى عَليهم إلاّ اللهُ، ولاَ سلطَانَ عَلَيهم لِسِوَاهُ". ثُمَّ أَخَذَ في الكَلام عَلَى مَا أَعَدَّهُ لِأهْل القِسْم الثَّاني وهُمْ أَصْحَابُ اليَمين فَقَالَ تَعالَى:
83. وَأَصْحابُ اليَمين(28) مَا أَصْحَابُ اليَمين(29)
أَصْحَابُ اليَمين هُم أَصْحَابُ المَيمَنَة، ولَكِنَّه ذَكَرَهُم أوَّلاً بِطَريقِ التَّصْريحِ بِوَصْفِهم فَقَالَ: فَأصْحَابُ المَيْمَنَة. وذَكرَهم ثانِيًا بِطَريق الكِنَايَة فَقال: وَأصْحابُ اليَمين. فإنّه يَلزَمُ مِن كَوْنِهم أَصْحَابُ اليَمين لاَ أصْحابَ الشِّمَال أنْ يَكونوا أصْحابَ يُمْنٍ وبَرَكَةٍ فَكَأَنّه قَال: وَأصْحَاب اليُمْن والبَرَكَةِ، لِأنّه يُؤْخَذُ بِهم ذَاتُ اليَمين.
84. والمَعْنى وأَصْحَابُ اليَمين وأيُّ شَيءٍ هُم أصْحابُ اليَمين، فَهُمْ شَيءٌ عَظيمٌ لِبُلوغِهِم دَرَجَةً عَظيمَةً فِي اليُمْنِ والسَّعَادَةِ، وقَد تقدّم هذا المعنى عند قولِه: فَأصْحَابُ المَيمَنَة مَا أصْحَابُ المَيْمَنَة". قَد ذُكِروا هناك في مُجْمَلِ التَّقْسيم، وأَعادَهُم هنَا لِتَفْصيل مَا أَعَدَّهُ لَهم، وأَعادَ التَّعجّبَ مِن حالِهم لِتعظيمِهم وَرَفْعِ شَأنِهم وقَولُه تَعالَى:
85. فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ(30)
خَبَرٌ ثانٍ لأصحاب اليَمين. والسِّدْرُ هو شَجَر النَّبَق المَعروفُ. والمَخضود، قَالَ ابنُ عبَّاس، رَضي الله عنهما،: “الذي قُطعَ شَوكه وأزيل مِنه”. وسِدرُ الجَنّة خُلقَ بِغَير شَوكٍ فَكأنّه خُضِدَ شَوكُهُ.
86. وفي حاشية العَلاَّمَة الجَمَل، وفِي الخطيب: قال ابنُ المُبَارَك، أخبرنا صفوان عن سليم بن عامِرٍ قال: كَان أصحابُ النّبيءِ، صَلّى الله عليه وسلّم، يَقولون: إنَّا لَتَنْفَعُنَا الأعْرَابُ ومَسَائِلُهم. قَالَ: أَقبَلَ أعرابيٌّ يَومًا فَقال: يَا رَسول الله، لَقدَ ذَكر الله في القرآن شَجَرَةً مُؤذِيَةً، ومَا كنتُ أَرَى أنَّ في الجَنّة شَجَرَةً تُؤذي صَاحبَها؟ فَقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وما هي؟ قال: السِّدرُ، فإنَّ لَه شوكًا مُؤذيًا، فَقَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَو لَيسَ يَقول: في سِدْر مَخضودٍ، خَضَدَ اللهُ شَوْكَه، فَجَعَلَ مَكانَ كلِّ شَوكَةٍ ثَمرَةً، فَإنّهَا تُنْبتُ ثَمْرًا على اثنَيْن وسَبعينَ لَونًا من الطعام، مَا فيهَا لونٌ يُشبهُ الآخرَ. اهـ . ورَواه الألوسي في تفسيره مع اختلاف قليل في اللّفظ.
87. وقيلَ: المَخضُودُ الذي وَقَرَ حمْلاً أَيْ ثَقُلت لِكثْرَة حَمْلها وَثَمَرِها. ولأَجْل مُبَالَغَتهم في التَّنَعُّم وإحَاطَة النَّعيم بِهم مِن كُلِّ جِهَةٍ جَعَلَهم مَظروفينَ في السّدرِ ومَا عُطفَ عليه. وقوله تعالى:
88. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ(31) مَعطوفٌ عَلى المَجرور قَبلِه. والطَّلحُ هو شَجَرٌ من شَجَر العَضَاه، الوَاحدة طَلْحَةٌ. والعَضَاهُ كُلُّ شَجَرٍ يَعظم وله شوكٌ، الوَاحدة عَضَاهَة وعَضَةٌ. والطلح في لسان الشرع هو المَوْزُ، ولذلك قال الإمام الطبري في تفسيره:" وأمّا أهل التّأويل مِنَ الصَّحابَة والتابعين فإنّهم يقولون إنّه الموز [45] . اهـ1. وهو الذي عليه أكثر المُفَسّرين.
89. وقيلَ: هو شَجَرٌ لَه ظلّ بَاردٌ طَيّب. وقيل: هو شَجَرُ أمِّ غَيلاَنَ، لَه شَوكٌ ونَوْرٌ، طَيِّبُ الرّائحة. والمَنْضُودُ: المَضمُوم بَعضُه إلَى بَعْضٍ، والمُرصَّف المُحْكَم. والطَّلحُ المَنْضود هو المَضمُومُ بَعضُ ثَمَرِهِ إلَى بَعْضٍ بِحَيث كَانَ مُرَصَّفًا من أسفله إلى أعلاه.
90. وقَد خَاطَبَهم الباري، جَلَّ شَأْنُه، بمَا أَلِفوهُ واعْتَادوهُ وَأحبّوه في زَمانهم ومكانِهم، تَرغيبًا لهم وإلاّ فالنّشأة الأخرى وَرَاءَ مَا يَتصوّره العَقلُ [46]. وقَد قيلَ: لَو اجتَمَعَ جَميع مَلاذِّ الدنيا مِن مَأكُولٍ ومَشْروبٍ ومَنكوحٍ، وتَجَسَّمَت في شيءٍ وَاحِدٍ فَلاَ شَكَّ أنَّهَا تَعظُم وتتقوّى لذّته في الجنّة، كَانَ كَمَن انْتَقَلَ مِن الحَنظَلِ إلَى العَسلِ، ومَا عندَ الله أعظمُ وأبْهَرُ لَو كَانوا يَعمَلونَ. وقَوله تَعالى:
91. وظلٍّ مَمْدودٍ(32) مَعْطوفٌ عَلَى مَا قَبْله، أيْ وَأصْحَاب اليَمين فِي ظِلٍّ مَمْدودٍ، أيْ مُنْبَسِطٍ دَائمٍ، لا تَنسَخه الشّمس. وفي صحيح البخاري، فِي بَاب قوله: “وظلّ مَمْدُودٍ”: حَدَّثَنَا عليٌّ بنُ عَبد الله، حدَّثنَا سفيان عن أبي الزّناد عن الأعرج عن أبي هريرةَ، رضي الله عنه، يَبْلغ به النبيَّ، صلّى الله عليه وسلّم، قال: إنَّ في الجَنَّة شَجَرَةً، يَسير الرّاكب في ظلّها مائةَ عامٍ، لاَ يَقطَعُهَا. واقرؤوا إنْ شِئتُم: وظلٍّ مَمْدودٍ .اهـ [47] .
92. والظلُّ المَمدودُ مِن أَعظم النِّعَم التي امتنَّ بها الباري عَلَى عباده، ويَعلَم ذلكَ حقيقَةً مَن كان في البلاد الحارَّةِ كَخَطّ الاستواء. وهذا أيضًا منَ النَّعيم الدنيويِّ الذي تَرغب به القلوب وتستجلبُ به النُّفوسُ، والله أعلم بما في الغَيبِ. وقوله تعالى:
93. ومَاءٍ مَسْكُوبٍ(33) مَعطوفٌ أيضًا عَلى مَا قَبله. والمَسكوبُ الجَاري أيْ فِي كلِّ الأزْمَان دونَ انقطاعٍ ولا امتناعٍ. وفي تفسير الألوسي: أَخرج عبد بن حميد وابن جَرير والبَيهقيُّ عَن مُجاهد قال: كَانوا يَعْجَبُون بِوَجٍ [48] وظِلالِه مِن طلحهِ وسدرهِ، فأَنْزَلَ اللهُ تعالى: “وَأصْحابُ اليَمين مَا أصحاب اليمين في سِدْرٍ مَخْضودٍ” الخ. وفي رواية عن الضَّحَّاك: "نَظَرَ المسلمون إلَى وَجٍ، فَأعجبَهُم سِدرُهُ وقَالوا: يا لَيتَ لَنَا مثلَ هَذَا ! فَنَزَلت هذه الآية. اهـ .
94. و“وَج” وادٌ مُخَصَّبٌ بالطَّائف، كَثيرُ الأعناب والنَّخيل والفاكهة طيِّبُهَا. قال كاتب الشرق الأكبر شكيب أرسلان [49] في كتابه، الارتسامات اللّطاف: إنّه مَا رَأى ثمارًا أطيبَ وأعظمَ من ثِمَار الطائف على سعة اطّلاعه، وكَثرة جولانه في أوروبا وإفريقيا وما زاره من الحواضر والقرى حتّى إنَّه قَال: كنَّا نَضع حبّة العنب على فم الدّورق الحجازيّ فتغطّيه لكبرها وعظم حجمها. قلتُ: ولاَ غَرَابَةَ في ذلك، إذ لا يبعد أن تكون دعوة إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام لأهل مكّة إذ قال: “وارزقْ أهْلَه من الثّمرات [50]” استجابها الله تعالى فَكانَت تُجبَى إلى مكّةَ المكرّمةِ تلك الثمرات الطيّبَةُ. وسُمِّيَ هَذا الوَادي “وَجٍ” باسم شخص من العمالق، أوَّل مَن نَزَلَ بِه. وهو كالنعيم الذي قبله وكذلك قوله تعالى:
95. وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ(34) مِن النَّعيم الدُّنْيَويّ المَألوف لِأَهْلهَا المَحبوب عِندَهم، ذَكَرَه البَاري تَرغيبًا لَهم فيما عِندَهُ مِمَّا لاَ عَينٌ رَأتْ، ولا أذنٌ سَمعت ولا خَطَرَ عَلى قَلب بَشَرٍ. وهكذا جميع النّعمِ المَذكورة المألوفة، فَما عندَ الله أعظمُ مِمَّا تَتَخَيَّلُه الأوهامُ أو تَتَصَوَّرُه الأَفهَامُ. وقد جَاء في الحديث: “أَعْدَدتُ لِعبادي الصّالحين ما لاَ عَينٌ رَأت، ولا أُذُنٌ سَمِعَت ولاَ خَطَرَ عَلَى قَلب بَشرٍ” [51]. والمَعنى: وَأصحاب اليمين في فاكهةٍ كَثيرةٍ وفَسّرَ الكَثرَةَ بقوله:
96. لاَ مَقطوعَة (في زَمَانٍ دونَ آخَرَ) ولاَ مَمْنوعَةٍ(35) بِوَجْهٍ مِن الوجوه مِن ثَمن وغَيره، بَل لَهم أنْ يَتَنَعَّموا وَيَتَلذّذوا مَتَى شَاؤوا وأرَادُوا، وبمَا شَاؤوا وأرَادوا. والإطلاقُ في نِعَم الجَنَّة مِن أعْظَم نَعيمِهَا. وهَاته الفَاكِهَة كَثيرَةُ الأنْواع وَالأجْنَاس وقَد تَقَدَّمَ تفسيرُ الفَاكهة وإنّهَا الثّمار كلّها أو كلُّ مَا يُتَنَعّمُ به فِي الأَكْلِ. ومِن النّعيم الذي أعَدّه اللهُ لأصْحَابِ اليَمين مَا ذَكَرَه في قَولِه تَعالى:
97. وَفُرُشٍ مَرفوعَةٍ(36)
الفُرُشُ، جَمْع فِرَاشٍ بِكَسْر الفَاء، مَا يُفْرَش ويُنَام عَلَيْه. واختلفَ فَقيل المُراد بهَا الفُرُشُ حَقيقَةً. وقيلَ المُرادُ بها نِسَاءُ الجَنَّة والعَرَب تُسَمِّي المَرأةَ فِراشًا ولباسًا عَلَى الاستعارة كَمَا ذَكره الخَازِنُ [52]. والمَرْفوعَة عَلَى الأَوَّل أو الثّاني يجوز أنْ يَكونَ مَعنَاهَا مَرفَوعَةً عَلَى الأسرّة أو مَرفوعَةَ القَدر أو همَا. وقد قال تعالى: “هُم وَأزْواجُهمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأرَائِكِ” [53]. غَيرَ أنَّه يُرَجَّحُ كَونُ المُرَاد بِالفُرُش النِّسَاءُ هُو مَا فَصَّلَه بَعدُ في قَولِه تعالى:
98. إنّا أنْشَأْنَاهنَّ إنْشَاءً(37)
أنْشَأناهنّ إنشاءً: خَلقنَاهنَّ خَلقًا. وتَأكيد الفِعل بالمَصْدَر دليلٌ عَلَى تَعظيم هذَا الإنْشَاء، وإنَّه نَوعٌ آخَرُ غَيرُ الإنْشَاء الأوَّل في الدّنيَا بَل الثَّاني في الآخِرَةِ أعْظَمُ وأبْهَر وقَولُه تَعالَى:
99. فَجَعلنَاهنَّ أبْكَارًا(38) عُرُبًا أتْرابًا(39)
أيْ فَصَيّرْنَاهنَّ وهوَ مَعطوفٌ على أنْشأناهنَّ بفَاءِ التَّرتيب والتَّعقيب وهو يُشيرُ إلَى أنَّ النَّشأةَ الأخرويَّةَ، كالنّشأة الدّنيويّة، فِي الخَلق تَدريجًا وتَرتيبًا وهوَ مَا تَقتَضيه الحكمةُ الإلهيّةُ غَيرَ أنَّ الفَاءَ وإنْ دَلّت عَلَى التَّرتيب دَلّتْ عَلَى التَّعقيب أيضًا الذي لا مُهلَةَ فيه فَإذَا تَشَابَهت النّشأتان الدّنيويّة والأخرويّةُ في التّرتيب فقد اختلفَت في التَّراخي والتعقيب وهو يَدلُّ عَلَى نَوعٍ تَخالَفَ في خَلقِه والله أعلمُ بِغَيْبِه.
100. والأبْكَارُ جَمْع بِكْرٍ وهْيَ العَذْرَاءُ، ضدَّ الثَّيِّبِ. والعُرُبُ جَمعُ عَرَوبٍ وهْيَ المُتَحَبِّبَةُ إلَى زَوجِهَا عِشقًا لَه. وعَن أسامة بن زيد عن أبيه قال: هُنَّ حِسَانُ الكَلاَمِ. والأَتْرَابُ جَمع تِرْبٍ أيْ سنٌّ وَاحِدٌ، بَنَاتُ ثَلاثٍ وثَلاثينَ سَنَةً كَأزْوَاجِهِنَّ. وَتَأكيد الإنشاءِ بإنَّ في قَوله: “إنَّا أَنشَأناهنّ” يَدُلُّ عَلَى أَنَّ المُخَاطَبَ بذلكَ مُنْكِرٌ لهَذَا الإنْشَاء وَلَو كَانَ خَاليَ الذّهن لَمَا احْتَاجَ إلَى التَّأكيدِ للقَاعِدَة عندَ عُلمَاء المَعاني المُشار لَها بِقَول الأَخضرَيِّ [54] في الجَوهَر المَكنون [55]:
فُيُخبَرُ الخَالي بلاَ تَوْكــــيدٍ *** مَا لَم يَكنْ في الحُكم ذَا تَردِيدٍ
101. ولاَ شَكَّ أنَّ المُشركينَ مُنكرينَ لإحيَاء الخَلْقِ بَعدَ مَوتِهِم. واخْتَلَفَ العُلماءُ في هَذَا الإنْشَاء فَقيلَ هو خَلْقٌ جَديدٌ مُخْتَرَعٌ لهؤلاء النّسوَة. وعَلَيه فَهنّ الحُورُ العِين ولَسن مِن نَسْل آدَمَ، عَلَيه السّلام، وعَلَيه أَبو عُبيدَةَ كَما ذَكَرَه العَلاَّمَةُ الجَمَلُ. وقيلَ: هو إعادَةُ إنشاءٍ لِهؤلاء النّسوَة، وعَلَيه فَهنّ مِن نَسْل آدَمَ عَلَيه السَّلام، جَعَلَهنَّ البَاري بِعظيم قُدْرَتِهِ أبْكَارًا كُلَّمَا أتَاهنّ أزْواجُهُنّ وَجَدوهنَّ أبْكارًا.
102. وقَد رُوِيَ أنَّ أمَّ سَلَمَةَ سألَتْ رَسولَ الله، صَلَّى الله عَلَيه وسلّم، عَن قَوله تعالى: إنّا أنشأناهنّ إنْشَاءً. فَقالَ: يَا أمَّ سَلَمَةَ، هُنَّ اللّواتي قُبِضْنَ في دَارِ الدُّنيَا عَجَائزَ شُمْطًا رُمْصًا، جَعلَهنّ الله بَعدَ الكِبَرِ أتْرَابًا عَلَى مِيلادٍ وَاحِدٍ فِي الاسْتواء، كلّمَا أتَاهنّ أزواجهنّ وَجَدوهنَّ أبْكَارًا. فَلمَّا سَمِعَت عَائشةُ رَسولَ الله، صلّى الله عليه وسلّم، يَقولُ ذَلكَ قَالت: وَاوَجَعَاه ! قَالَ رَسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لَيسَ هناكَ وَجَعٌ. نَقَلَه العَلاَّمَةُ الجَمَلُ. وفي الألوسي.
103. وَأخْرجَ التِّرْمِذيُّ في الشَّمَائِل وابنُ المُنْذِر وغَيرُهمَا، عَن الحَسَن قَالَ: أَتَتْ عَجوزٌ النّبيَّ، صَلَّى الله عليه وسلّم، فَقَالَت: يَا رَسُولَ الله ! ادْعُ اللهَ أنْ يُدْخِلَنِي الجَنَّةَ. فَقال: يَا أمَّ فلانٍ ! إنّ الجَنَّةَ لا يَدخلهَا عجوزٌ. فَوَلّت تَبكي. قَال: أخبروهَا أنّها لاَ تَدخلهَا وَهي عَجوزٌ. إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقول: إنّ أنشأناهنّ إنشاءً فجعلناهنّ أبْكارًا.
104. فَالحَاصل أنَّ اللهَ تَعالَى أنْشَأَ هؤلاء النّسوة إنشاء جديدًا على صفة كاملةٍ تَستَلزمُ البَقَاءَ والدّوامَ. جَعَلَهنَّ
105. لِأصْحَابِ اليَمين(40)
وقَولُه تَعالَى:
106. ثُلّةٌ منَ الأوّلينَ (41) وَثُلَّةٌ منَ الآخِرينَ(42)
خَبَرٌ لِمُبتَدَأ مَحذوفٍ أيْ هُم ثلّةٌ منَ الأوّلين إلخ... والمَعنى أنَّ أصحابَ اليَمينِ الذين هُم دونَ السَّابقينَ في الدَّرَجة والمَرتَبَة ثلّةٌ عَظيمَةٌ: منهُم مِنَ الأَوّلينَ أَيْ مِن مُتَقَدِّمي الإسْلام، وَثُلّةٌ عَظيمَةٌ مِنهم مِن الآخِرينَ أيْ مِن مُتَأخِّري الإسلام. فَأهْلُ اليَمين والبَرَكَة والخَير كثيرونَ في أَوَّلِ الإسْلامِ وآخِرِهِ.
107.وفِي الألوسي: أَخرَجَ مُسَدِّد فِي مُسنَده وابنُ المُنذِر والطبرَاني وابن مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عن أبي بَكرَةَ، رَضيَ الله تَعالَى عَنه، عَن النّبي، صَلَّى اللهُ عَلَيه وَسلّم، فِي قَوله سبحانه: “ثُلَّةٌ منَ الأوَّلينَ وَثُلَّةٌ مِن الآخِرينَ”. قَال همَا جَميعًا من هذه الأمّة . اهـ .
108.تتمّة: في فَضْل الأمّة المُحمّديّة وذكرِ بَعض الأدلّة على ذلك.
قال الله تعالى: “كنتم خَيرَ أمَّةٍ أُخرجَت للنَّاس تَأمرونَ بالمَعروف وتَنْهَوْنَ عَن المُنْكَر وتُؤمنونَ بالله” [56]. وفِي صَحيحَيْ البُخاريّ ومُسلم: عَن عَبد الله، قَال: كنَّا مَع رَسول الله، صَلَّى الله عليه وسلّم، فِي قُبَّةٍ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلا ، فَقَالَ: “أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟” قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : “أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ ؟” . قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَاكَ أَنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ فِي الشِّرْكِ إِلا كالشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَسْوَدِ، أَوْ كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الأَبْيَضِ” [57].
109.وفَي مَصابيح السُنَّة للإمام البَغَوي: عَن أَنَسٍ أنّ النّبيَ، صَلّى الله عليه وسلّم، قال: أمّتي مثلَ المَطَر لا يُدْرَى أَوّله خيرٌ أمْ آخِرُهُ [58]".
110.وفِي تَفسير الخَازن: عَن بريْدَةَ، عَن النّبي، صَلّى الله عليه وسلّم، قَال: أَهلُ الجَنَّة عِشرونَ ومِئة صفٍّ، ثَمانون منها من هذه الأمّة وأربعون من سائر الأمم. أخرجه الترمذي وقال حديث حسن اهـ.
111. وهْيَ الأمّةُ القَائمة آناءَ اللّيلِ يَتلونَ آياتِ اللهِ وهُمْ يُسَبّحونَ وهم الذين يُسَارعونَ في الخَيْرات ومِنَ الصّالحين. وهم الذين يَبيتونَ لِربّهم سُجَّدًا وقيامًا. ومِن خصائصها كما في اختصار المَواهِب اللّدُنِّيَّة: أنْ جَعلهم وَرَثَةَ الأَنبياءِ" وغير ذلك من أوصاف الكمال الثابتة لهاته الأمّة المرحومة المُبَارَكَة.
112.ونَبيّها، صَلَّى الله عليه وسلّم، أَفضَلُ الخَلق عَلَى الإطلاق وهو القائل كما في صحيح مسلم: أنَا سَيّدُ وَلَدِ آدَمَ يَومَ القيامة وأوّلُ مَن يَنشقّ عنه القبور وأوّل شافعٍ وأوّل مُشَفَّعٍ.
وأفْضَلُ الخَلْقِ عَلَى الإطْلاَقِ *** نَبينَا فَمِلْ عَن الشِّقَاقِ
113. وهو القائل صلّى الله عليه وسلّم: “مَا مِن أمّة إلاّ وبعضها في الجنّة وبعضها في النّار إلاّ أمّتي فكلّها في الجنّة”. وهو القائل أيضا، كما في اختصار المواهب اللّدُنيّة [59]، فيما أخرجه أبو نعيم في الحِلْيَة [60] عَن أَبي هريرَةَ، رَضي اللهُ عَنه، قَال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إنَّ موسَى لَمّا نَزَلَت عَليه التّوراةُ وَقَرَأهَا فَوَجَدَ فيها ذكرَ هذه الأمّة قال: يَا رَبّ إنّي أجدُ فِي الأَلْواح أمَّةً أناجيلُهم في صُدورِهم يَقرؤونَهَا ظاهرًا فاجعلها أمّتي ! قَالَ: تلكَ أمَّةُ أحمَدَ. قَال: يَا ربّ ! إنّي أَجد في الألواح أُمَّةً يأكلون الفيءَ فاجعلها أمّتي! قال: تلكَ أمّة أحمد. قال: يَا رَبّ! إنّي أجد في الألواح أُمَّةً يَجعلونَ الصَّدَقَةَ في بُطونهم يُؤجَرونَ عَلَيهَا فاجعلها أمّتي! قَالَ: تلكَ أمَّةُ أحْمَدَ. قَال: يا ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة إذا هَمَّ أحدُهُم بِحَسَنَةٍ فلم يَعْمَلْهَا كُتبتْ لَه حسنةٌ واحدة وإنْ عَمِلَهَا كُتِبَت له عشرُ حَسَنَاتٍ فاجعلها أمّتي! قال: تلكَ أمّة أحمدَ. قال: يَا ربّ! إنّي أجدُ فِي الألواح أمَّةً إذَا هَمَّ أحدُهم بسيّئة فلم يَعمَلهَا لَم تُكتَبْ لَه، وإنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَه سيّئةٌ واحدةٌ، فَاجعَلهَا أمّتي! قَالَ: تلكَ أمَّةُ أحمَدَ. قال: يَا رَبّ! إنّي أجد في الألواح أمَّةً يُؤتونَ العلمَ الأوّلَ والعلمَ الآخِرَ،
فيقتلون المسيح الدجّالَ فاجعلها أمّتي! قال: تلكَ أمَّة أحمدَ. قال: يَا رَبِّ! فاجعلني من أمّة أحمد! فَأُعْطِيَ عندَ ذَلكَ خَصْلَتَيْن: “قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ [61]”. قال قد رضيت يا ربّ".
114.وفي كتاب النّطق المفهوم [62]: عَن ابنِ عَبَّاسٍ يَرفعه: قَال موسى: يَا رَبّ! فَهل في الأمَم أكرمُ عَليكَ من أمّتي؟ ظَللت عليهم الغَمَامَ وأنزلت عليهم المَنَّ والسّلوى! فقال سبحانه وتعالى: يَا مُوسَى أمَا عَلمتَ أنَّ فَضلَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى سَائر الأمَمِ كَفَضلي عَلى جَميع خلقي. قَال: يا ربّ! فَأرنيهم! قال: لَن تَراهم ولكن أسمعك كلامَهُمْ. فَناداهم الله تعالى فأجابوا كلّهم بصوت واحد: لَبّيكَ اللهم لبيك! فَقَالَ: سُبحانه وتعالى: صلاتي عليكم: وَرَحمتي سبقت غضبي وعفوي سبق عذابي استجبت لكم قبل أن تسألوني فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله غفرت له ذنوبه. قال، صلّى الله عليه وسلّم، فَأرَادَ أنْ يَمُنَّ عَلَيَّ بذلك. فَقال: "وما كنت بجانب الطور إذْ نَادَينَا أيْ أمَّتكَ حَتّى أسْمَعنَا موسى كَلامَهم.
115. وفي اختصار المواهب اللّدُنيّة في بعض مَا رَواه ابنُ مُنَبِّه: طوبَى لتلكَ القلوب والوجوه والأرواح التي أخلصت لِي! أُلهِمُهُم التّسبيحَ والتّكبيرَ والتحميدَ والتّوحيدَ في مَساجدهم ومَجالِسِهم ومَضاجِعِهم ومُتَقَلَّبهم ومَثوَاهم، وَيُصَفَّونَ في مساجدهم كما تُصَفُّ المَلائكة حولَ عَرشي. هم أوليائي وأنصاري. أَنتقم بهم من أعدائي، عبادِ الأَوثَان. يُصَلُّونَ لي قيامًا وقعودًا وركَّعًا وسجودًا، ويَخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاءَ مَرضاتي ألوفًا، ويقاتلونَ في سبيلي صفوفًا، أختمُ بكتابهم الكتبَ وبشريعتهم الشرائعَ وبدينهم الأديانَ. إلى آخر ما نَقل
116.فهاته الأدلّة والآثار جَلَبتهَا للتّبرّكِ وللدَّلالَة عَلَى مَا آتاه الله لهاته الأمّةِ المُبَارَكَةِ وتَفضَّلَ عَليهَا به والحمد لله ربِّ
العَالَمينَ.
117.الاسترواح:
لاَ حظَّ للاسترواح [63] في ذلك سوى أنَّ أصحَابَ اليَمين قِسْمٌ من المُتَوَجِّهينَ إلَى حَضْرَة القدس كانت نتيجةُ تَوَجُّهِهِم رسوخَهم في العِبَادَة والقِيَام بالمَفروضَات والمَسنونات فأعدّ الله لهم جزاءَ أعمالهم ما سَطَّرَه في هَاته الآية وهو على التَّحقيق مُجَرَّدُ رَحْمَة وفَضل من الرحمان الرحيم فالفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ثمَّ أَخَذَ في الكلام على مَا أعدَّه لأهل القسم الثّالثِ وهم أصحاب الشِّمَال فَقَالَ تَعالَى:
118
.وَأَصْحابُ الشِّمَالِ(34) مَا أَصْحَابُ الشِّمَال(35)
أَصحابُ الشِّمَال هُم أَصحابُ المَشْأمَةِ، لَكنَّهُ ذَكَرَهم أوَّلاً بِوَصفِهم صَرَاحَةً وهوَ الشُّؤْمُ فَقَالَ: وَأصْحَابُ المَشْأَمَة. وذَكَرَهم ثانيًا بِطريق الكِنايَةِ فَقَالَ: وَأصْحَابُ الشِّمَالِ. إذْ أنَّه يَلزَم مِن كَونِهِم أصحابَ الشِّمال لاَ أصحابَ اليَمينِ أنَّهم أَصحابُ شُؤْمٍ عَلَى أَنْفُسِهم، فَكَأنَّه قَال: وَأصْحابُ الشُّؤْم، لِأنَّه يُؤخَذُ بِهم ذَاتَ الشِّمَالِ. والمَعنى: وَأصْحَابُ الشِّمَال وأيُّ شَيءٍ هُم أَصْحَابُ الشِّمَالِ، أيْ هُم شَيءٌ عَظيمٌ وَلكنْ في سُوء الحَالِ والمُنْقَلَبِ، فَهو تَعَجُّبٌ مِن حَالِهم وَمَا هُمْ عَلَيْه. وقَد تَقَدَّم مثلُ هَذَا المَعنَى في قَولِه: وَأَصْحابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحابُ المَشْأَمَةِ. وقَد أعادَ التعجّبَ من حَالِهم لِأجْلِ التَنفير مِن فِعَالِهم وقَولُه تَعالى:
119.فِي سَمومٍ وحَميمٍ(45)
أيْ ريحٍ حارَّةٍ تَنفذُ في المَسَامِّ [64]. وحَميم أيْ ماءٌ شديدُ الحَرارَة. وفَي جَعلهم مَظروفين في السّموم مَا فيهِ مِن المُبالَغَة في إحاطَة أنْواع العَذاب بهم. وقَولُه تَعالَى:
120.وَظِلٍّ مِن يَحْمُومٍ(46)
مَعطوفٌ عَلى ما قَبلَه. واليَحْموم الدّخان الأسْود. وقَيل: وَادٍ في جَهَنَّمَ. وقيل: اسْمٌ مِن أسْمائِها. ولكنْ جَعْلُه بَيَانًا للظلّ يُشير إلَى أنَّه دُخَانٌ أَسوَدُ أَيْ وَأصْحَابُ الشِّمَال في ظِلٍّ مِن دُخَانٍ شَديد السَّوادِ. ثمَّ نَفى عنه صِفَتَيْن مِن صِفات الظِلّ دَفْعًا لما يُتَوَهَّمُ مِن أَنَّ ظلَّ اليَحموم رُبّما يَكونُ كَبقيّة الظّلال
121.فَقَال تَعالَى: لاَ بَارِدٍ ولا كَريمٍ(47)
يَعنِي أنَّ الظلَّ لَيسَ بِبَارِدٍ كَبقيّة الظِّلال وَلاَ كَريمٍ، يَنْفَع المُسْتَظِلَّ بِرُوحِه ويَقيهِ مِنَ الحَرِّ، وإذَا انْتَفَى عَنه بُرَودَةُ المَنزِل وَكَرَمِ المَنْظَر ثَبَتَت لَه الحَرارَة والمَضَرَّة، لأنَّ العَادَةَ إذَا انتَفَى الشّيءُ ثَبَتَ ضِدُّهُ. وتَعذيبُ الإنْسَان بِهاته الأشْيَاء التي هيَ السُّمُوم والحَميمُ وظلُّ اليَحمومِ مِن أَشَدِّ أنْوَاع العَذَاب في هَاتِه الدّار. وذَاكَ لأنَّ المَاءَ والرّيحَ البارِدَيْن تَستَقيم بهما مادَّةُ الحَياة، فَإذَا انْقَطَعَا عَن الإنْسان كَانَ أَقربَ إلَى الهَلاك. وقَدْ خَوّفَ اللهُ عِبَادَه بمَا أَلِفوهُ وَعَلِموا أنَّهُ أَشَدَّ العَذَاب عنْدَهم، وإلاَّ فَعَذابُ الآخِرَة أَكْبَر لَو كَانُوا يَعلَمونَ. ثمَّ ذَكرَ أنَّ أصْحَابَ الشِّمَال استحقّوا ذَلكَ العَذابَ بمَا عَملَتْ أَيْديهِم في الدّنيَا فَكانَ لَهم جَزَاءً وفاقًا. وَذَكرَ ثَلاثَةَ أَسبابٍ مُوجِبَةٍ لعذابهم فَقالَ تَعالى:
122.إنَّهُم كانوا قَبلَ ذَلكَ مُتْرفينَ(48)
هَذَا هوَ السَّببُ الأَوّل. وَأَتَى به مُؤَكَّدًا بِإنَّ، لِأَنَّه نَزَّلَ المُخْبَرَ مَنزلَةَ السَّائِل المُتَرَدّد، فَكأنَّ قَائلاً قَال: لِماذا جَعلَ لَهم مَا تَقَدَّمَ من العَذاب؟ فَأجابَه بقوله: إنّهم كانوا إلخ.
123.وقَولُه: “مُتْرَفينَ” أيْ مُنَعَّمينَ. والمَعنى أنَّ هؤلاءِ أَصحابَ الشَّمَال كانوا في الدّنيَا قَبلَ ذَلكَ أي قَبلَ أَنْ يُصيبَهم ذَلكَ العَذابُ مُتْرفينَ مُتَنَعِّمينَ بلذائِذِهم فأذْهِبوا طَيّبَاتِهم في الحَياة الدّنيَا واستمتعوا بها فأشغلهم التّنعمُ عن التَّفكير والاعتبار وعن أداءِ ما يَجبُ للواحِد القَهَّارِ، لأنَّهم انْغَمَسوا في شَهَواتِهم فَحُجِبوا عَن حَسنَاتِهم وارْتَكبوا سَيِّآتِهم. فَأصْلُ التَّرفِ والتَّنَعُّمِ بِلذائذِ الدّنيَا التي هي مِن نِعَم اللهِ وَزينَتِه التي أخْرَجَ لِعبَادِه لَيس بِمَذمومٍ وكيفَ يكونُ مَذمومًا والبَاري تَعالَى يَقول: "قُلْ مَن حَرَّمَ زينَةَ اللهِ التي أَخرَجَ لِعبَادِه والطَيّبَاتِ منَ الرّزقِ قُلْ هي للذين آمَنوا في الحَياة الدنيَا خَالصَةً يَومَ القيامَةِ [65].
124.إنَّمَا هؤلاء أصْحابُ الشِّمَال اشْتَغلُوا بالنِّعمَة عَن المُنْعِمِ وعَصَوْه بِنِعمَتِه التي أسْدَاهَا لَهم، فَمَنْ ظَهَرَت عَليكَ نِعْمَتُه وَجَبَتْ عَلَيكَ خِدْمَتُهُ [66]. وهَؤلاءِ عَكَسوا الأمْرَ فَعِوَضَ أنْ يُقابِلوا النِّعَمَ بالشُّكْر قَابَلوها بالكُفر، لذَلكَ ذَمَّهم بالتَّرَف وَجَعَلَه من أسْبَابِ عَذَابِهم. ثُمَّ أَعْلَمَ أنّ تَشخيصَ العَذَابِ جَعَلَه كَالحَاضِر وحَتَّى يُعلِنَ بأنَّ أَهلَه كَانُوا قَبلَه يَفعَلونَ وَيَفعلون لَمِن أَكبَر مَواعِظِ التَّرهيبِ لِقَوْمٍ لَهم قُلوبٌ يَعقلون بها وآذَانٌ يَسمَعونَ بها. وقولُه تعالى:
125.وَكَانُوا يُصِرّونَ عَلَى الحِنْثِ العَظيمِ(49)
سَبَبٌ ثَانٍ لِتَعذيبِهم. وَيُصِرّونَ أَيْ يَثْبُتونَ وَلَا يَنْفَكّونَ. والحِنْثُ الذَّنْبُ وَالإثْمُ. واختُلِفَ فِي الحِنْثِ العَظيم فَقيل: هو الشِّرْكُ. وقيل: هو اليَمين الغَموسُ. وقيل: الذَّنْبُ العَظيم مُطْلَقًا. وهوَ أَعَمّ إذِ الحِنثُ لَفْظٌ عَامٌّ لِأنَّه مُفْرَدٌ مُعَرَّفٌ بِال فَيَعمُّ كلَّ ذَنْبٍ، شِرْكًا كَانَ أَو غَيرَه. غَيرَ أَنَّ تَقييدَه بالعَظيم يُخْرِجُ الصَّغيرَ، فَإنَّ الإصرَارَ عَلَيه غَيرُ مُوجِبٍ للعَذاب، لِأنَّهُ يُفَكِّرُ باجْتِنَاب الذَّنب الكَبير لِقَولِه تَعالَى: “إنْ تَجْتَنِبوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنه نُكَفِّرْ عَنكُم سَيَّآتِكم [67]”. كَما أنَّ تَقييدَ الذَّنب العَظيم بِالإصْرَارِ عَلَيه يَقتضَي أَنّه إنْ لَم يَكنْ إصرارٌ لَم يَكن مُوجِبًا للعَذاب، إذِ التَّوبَةُ تَمحو مَا قَبلها. وهَو الذي يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبَادِه ويَعْفو عن سَيِّآتهم. بَل ربّما قَلَبَتِ التَّوبَةُ السّيِّئَةَ حَسَنَةً لِقولِه تَعالَى: “أولئك يبدّل الله سيّآتهم حَسَنَاتٍ [68]”. بَل رُبَّمَا يَصيرُ التَّائِبُ عندَ اللهِ مِنَ المَحبوبين لِقوله تعالى: إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَوّابينَ ويُحبُّ المُتَطَهِّرينَ [69]. ثَمّ ذَكرَ السَّببَ الثالثَ لِتَعذيبهم فقالَ تَعالَى:
126.وَكَانُوا يَقولونَ أَئذَا مِتْنَا وَكنّا تُرابًا وَعظَامًا إنَّا لَمبعوثونَ(50) أَو آبَاؤنَا الأوّلونَ(51)
أَيْ رَجَعنَاهم في العَذابِ أَيضًا لِأنَّهم يَقولونَ أَئذَا مِتْنَا وَكنَّا تُرَابًا وَعظَامًا أيْ أَئذَا صِرنَا في هَاته الحَالة بِأَنْ مِتْنَا وفَارَقنَا الدّنيَا وَصرنَا بَعدَ ذَلكَ بعضُنَا ترابٌ وبَعضُنَا عظامٌ نَخِرَةٌ مُجَرَّدَةٌ عَن الدَّم واللّحم والعُرُوقِ. ومَصير جَميع البَدن إلَى التّرابِ، غَيرَ أنَّه لَمَّا كَانت العِظام تَتَأخَّرُ في الفَنَاء وَالاضمِحْلال عَن بَقيَّة البَدَن كَما هو مُشَاهَدٌ فِيمَن فُتِحَ قَبرَه أَثبتوهَا وجَعلوهَا مَصيرَهم. أيْ أَئِذَا صِرنَا إلَى هَاته الحَالَة التي يَبْعُدُ مَعَهَا الرُّجوعُ للحَيَاة عَلَى زَعْمِهم وَعُقولِهم القَاصِرَةِ نَحيَا وَنُبْعَثُ. وقَولُه تَعالَى:
127.أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلونَ
الهَمزةُ فيه للاستِفْهَام، والوَاوُ للعَطْفِ، عَلى الضّمير في قَولِهِ: لَمَبْعوثُونَ. فإنْ قلتَ: القَاعدة في العَطف على الضَّمير المُتَّصلِ أنْ يُفصلَ بالضّمير المُنفصل بِأن يُقال في غير القرآن: “لَمَبعوثون نَحن وآبَاؤنَا الأوَّلونَ”، لِقولِ ابن مَالكٍ:
وإنْ عَلَى ضَميرٍ رَفع متّصل *** عطفتَ فَافْصِلْ بالضَّمير المُنْفَصِلِ [70]
قُلتُ: حَسُنَ العَطفُ دونَ التّأكيدِ بالضَّميرِ المُنْفَصِلِ، (الفَصْل) [71] بِهَمزة الاستفهامِ لقول ابن مالك بعد: “أو فاصلٍ مَا”.
128.وتَقدير الكلام أئِذَا مِتنَا وصِرنا تُرابًا وعِظامًا أَئنَّا لَمبعوثونَ أو آبَاؤنَا الأوَّلونَ. والاستفهام في قوله: أَئِذَا للاسْتبْعاد، وفي قوله: إنَّا لَمبعوثونَ لتأكيد الاستبعاد، وكَذلك الاستفهام في قَوله: “أَوَ آباؤُنَا” ولَيسَ المُراد حقيقَةُ الاستفهام في المَواضِع الثّلاثة فإنّ الاستفهامَ حقيقَةً لا يُوجبُ التعذيبَ. فاستعبدوا أوّلا بَعثهم ثمّ زَادَ استبعادُهُم لِبَعث آبائهم الأوّلين لطول زمانِ مَوتِهم وفنائِهِم واضمحلال أجسادهم وإنكارِهم لِبَعثهم وبعثِ آبائهم فيه، غَايَةُ ذَنبهم لتَعجيزهم لِقُدْرَة القديرِ، وتَكذيبهم لما جاء به البشيرُ النَّذيرُ. وهوَ يَدلّ على نهاية بَلادَتِهِم وَأنّهم في جَهْلٍ مُطْبَقٍ، فَقد كَذَّبوا المَنقولَ عَن المَعْصوم والمَعقول الذي هو قُدْرَةُ البَاري على كلِّ مَوجُودٍ ومَعدومٍ، ومَا أبْلدَ مَن أَنكرَ المَعقولَ والمَنقول.
129.وهَذَا كلّه أصَابَهم لعدم وُجودِ نورِ الإيمَانِ في قُلوبِهم ولَو أَوقَدَ اللهُ لَهم مِصْبَاحًا من نور الإيمان يَستضيئون به لَمَا ضَلّوا في طُغيانهم يَعمَهونَ. “ومَنْ لَم يَجعلِ اللهُ نورًا فَمالَه من نورٍ” [72]. نَسألُ البَاري أنْ يَهدينا إلى الصّراط المُستَقيم ويُثَبِّتَنَا على دينه القَويم.
130.هَذا وقد قال الرّازي: “والحِكْمَة في ذكره سبب عذابهم ولم يُذْكَر في أَصحاب اليمين سَبب ثوابهم فلم يَقل إنَّهم كانوا قبلَ ذلكَ شَاكرين مُذْعِنينَ وذَلكَ لأنَّ الثَّوابَ فَضْلٌ والعقابَ عَدلٌ وعَدم ذكر السّبب في الفَضل ليس بنقصٍ في المُتَفَضِّل. والنّفوس في الغَالبِ لاَ تَطلبُه بخلاف العَدْل، فَلا بُدَّ فيه من ذِكر السَّبب لأنّ النّفوسَ تَتَشَوّقُ لِذكره، وللاطّلاع عليه وإلاّ وَسَمَتِ المُعاقبَ بالظّلم [73]”. قلتُ: وهذَا فيمَا هو وَاقعٌ بينَ الخَلائقِ، والحَقُّ تَعالَى أَنْزَلَ كَلامَه عَلَى الأسلوب المُتَعَارَف بَينَ عبادِهِ، وإلاَّ فَهو تعالَى يَغفر لِمَنْ يَشاء، لاَ يُسأَلُ عَمَّا يُفْعَلُ وهُمْ يُسألونَ.
131.ثمَّ إنّ التعبير بقوله: “كانوا يَقولُونَ”، دونَ مَا يَعتَقدونَ مثلاً للإشارة إلى أنَّ إنكارَ البَعث ولو كانَ بالقول دون الاعتقادِ بِأنْ كَانَ عَلَى طَريق التردّد، أَو الهَزْلِ مَثَلاً مُضِرٌّ لِصاحبه [74]. ثمَّ قَال تَعالى: ردًّا لإنكارهم البعثَ واستبعَادِهم لَه.
132.قُلْ إنَّ الأوّلينَ وَالآخِرينَ(52)
أيْ قُل يَا مُحَمَّد لَهم إنَّ الأوّلين منَ الأصول إلى آدَمَ، عَليه السّلام، والآخِرِينَ مَن الفروع إلى أن يأتيَ أمرُ الله...
133.لَمَجموعونَ إلَى مِيقاتِ يَومٍ مَعْلومٍ(53)
المِيقاتُ هو الوَقتُ والمَوعِدُ وَالزّمانُ أو المَكانُ الذي يُحَدُّ بِه أَمْرٌ منَ الأمور. ومِنه مِيقاتُ الحَجِّ الذي لا يَتَعَدّاه الحَاجُّ إلاّ وهو مُحْرِمٌ.
واليَومُ المَعلوم هو يَوم الحِساب وهو مَعْلومٌ عندَ اللهِ تَعالى ومِن شَأْنِه أَن يُعلَمَ عندَ النّاس، فَإنّهم يَعلَمُونَهُ ويَتَحَقَّقونَه يومَ يَأتيهم.
وَلَمَّا أَن كانوا مُنكرينَ للبَعْث ومُستَبْعدينَ لَه أكَّدَ لَهم الخَبَرَ بِأَنْ وباللام في قَوله: لَمَجْمُوعونَ.
134.ثمَّ أَنَّه لَمَّا كَانَ العَذابُ المَذكور سابقًا في قوله: “وأصْحَاب الشّمال” أَعَدَّه لأصْحَابِ المَشْأَمَة مُطلَقًا سَواءً كانوا مَن يكذّبون بيوم الدّين أو مِمّن يُصرّونَ عَلَى الذّنب العَظيم أو مِنَ المُتْرفينَ أَعَدَّ اللهُ تَعالَى للمُكذّبينَ بِيَوم البَعث نوعًا آخَرَ منَ العَذاب جَزَاءً لَهم عَلى تَعذيبهم وزيادَةً في تَكذيبهم إذْ هُم أعْظَمُ ذَنبًا من قَسِيمِيهِم فَقالَ تعالى:
135.ثمّ إنّكم أيّها الضّالون المكذّبون(54)
أَيْ ثُمَّ إنَّكم أيّهَا الضَّالونَ عَن طَريق الهُدى وَرَأْيِ الصَّلاح والسَّدَاد، المُكَذّبونَ بِيَومِ المَعادِ أنتم ومَن كَانَ عَلَى شَاكِلَتِكم في الضَّلالِ والتّكذيب بالبَعثِ في كلّ زَمَانٍ ومَكانٍ.
136. لَآكِلونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقّومٍ(55)
فَإنَّكم زَرَعتمْ بَذرَ التّكذيبِ باليَوم المَعلوم فَحَصَدتمْ منْهُ شَجَرَةَ الزَقّومِ. والإنسانُ لاَ يَحْصدُ إلاّ مَا زَرَعَهُ. الزَقّوم عندَ العَرَبِ نَبَاتٌ بالبادِيَة لَه زَهْرٌ كَزَهْر اليَاسمين. وفي لسان الشّرع: شَجَرةٌ تَنبُتُ في أَصل الجَحيم يَأكُلُ مِنهَا المُكَذِّبونَ الخَاطِئونَ.
137.فَإنْ قلتَ: كَيفَ تَنبتُ الشَّجَرَةُ فِي جهَنَّمَ والحَالُ أنّها نَارٌ تَتَلَهّبُ وَنَباتُ الشّجرة في نارٍ لَها لهيبٌ محالٌ.
138.قلت: إنَّ أمرَ العَالَم الأخرَويِّ جَاء مِن وَرَاء هذا العَقل القَاصِر الدنيويِّ وهوَ مُخالِفٌ لِخلْقةِ هَذا العالَمِ الكَونيِّ الدنيويِّ. فَفيه “مَا لاَ عَينٌ رَأتْ ولاَ أذُنٌ سَمِعَتْ ولاَ خَطَرَ عَلَى قَلب بشرٍ [75]”. فلا تَستَبعدْ نَباتَ شَجَرة الزقّومِ فِي أَصْل الجَحيم يَأكل مِنهَا الخَاطِئونَ ولاَ تَقِسِ الغَائبَ عَلَى الشَّاهِدِ في مثلِ هَذا، فَقد أخبرَ الشّارعُ عَنْ أشياءٍ كَثيرةٍ تُباين خِلقةَ هَذا العَالَم فَما عليك إلاّ أنْ تُقدّمَ نورَ إيمانكَ فَتستضيءَ به، فَيرتَاح لَه جَنانُكَ وإيّاك أنْ تَعتَقلَ بِعِقال العَقل فَتَتَخَبّطَ في ظلماتٍ كَثيفةٍ من الجَهل، وقَولُه تعالى:
139. فَمالِئونَ منهَا البُطونَ(56)
ذَكرَ فيهِ نوعًا ثانيًا من العَذاب المُعَدِّ لِمُنكرِي البَعث. فَأصل الأكل من شَجَرة الزقّوم عذابٌ. وامْتلاء بطونهم منها زيادةٌ في العَذاب إذِ امتلاءُ البَطن وخصوصًا من طعام رديءٍ يُعَذَّبُ به الآكلُ عذابًا شديدًا. وأعادَ الضّميرَ في قَوله: “مِنها” مُؤنّثا لأنَّ شَجر اسمُ جِنْس يَجوز تَذكيرُه وتَأنيثُهُ ولذلك أعاده مُذَكَّرًا في قَولِه:
140. فَشَاربونَ عَلَيْه مِنَ الحَميم(57)
أيْ فَشاربونَ عَقِبَ أَكْلِهم عَلَى ذَلك الشّجر مِنَ المَاء الحَارّ للزّيادة في تَعذيبهم والنّكَالَة بِهم فَهو نَوعٌ ثَالثٌ مِنَ العَذاب. وعَطفُه بالفاء الدّالة عَلَى التّعقيب للإشارة إلى أَنَّه لاَ مُهْلَةَ بَينَ أَكلِهم مِن شَجَرِ الزَّقّومِ وشُربِهِمْ عَلَيه من الحَميم.
141.وقَولُه تَعالَى: فَشارِبونَ شُربَ الهِيمِ(57)
بَيانٌ لِكَيفيَّةِ شُربِهم مِنَ الحَميم فَإنَّهُم يَشْرَبونَ مِنهُ كَشُربِ الهِيمِ التي هي الإبِلُ العِطاشِ التي لا تُرْوَى. والهِيم جَمْعٌ، مُفْرَدُهُ للمُذَكَّر أَهْيَمُ وللمؤنّث هَيْمَاء.
142.فَتَحَصَّلَ أنّ المُكَذِّبينَ بِيَومِ البَعث أَعَدَّ لَهم اللهُ بِالخصوص أَربَعَةَ أَنواعٍ مِن العذاب وهي: أَكلهم من شَجَرَةِ الزَقّوم التي تَغْلي في البُطونِ كَغَلْيِ الحَميم. وامْتِلاءُ بُطونِهم مِنهَا. وشُرْبِهم عَلَيْهَا مِن الحَميمِ الذي يَقطَعُ أَمْعَاءَهُم. وشُرْبُهم كَشُربِ الهِيم. والإخبَار عن هاته الأنواع من العذاب بالجُمَلِ الاسميَّة الدالّة على الدَّوامِ والاستمرارِ، لِيُفيدَ أَنّهُم في العَذاب دائمونَ.
143. ثمّ اعْلَمَ أنَّ مُواجَهَة الحقّ تَعالى لهم بهذا الخطاب في قوله: “ثمَّ إنَّكُم أيّها الضَّالّونَ” لَمِن أَكْبَر أنْواعِ العَذاب. ثمَّ انتقلَ إلى أسلوبٍ آخرَ من الكلام، فَبعدَ أنْ كَان مُخاطِبًا للمكذّبين أعرضَ عَنهم وخاطَبَ نَبيّهُ وعِبَادَه المؤمنينَ وأَخبَرَهُم عَن جَزاءِ المُكَذِّبينَ فَقالَ تعالى:
144.هَذَا نُزُلُهم يَومَ الدّينِ(59)
وهَذا النّوعُ مِن الكلام الذي هو الانتقالُ من أسلوبِ الخِطابِ إلى الغَيْبَة وعَكسُهُ يُسَمَّى عندَ البُلغَاء الالتِفَاتُ. ويَكون لِنُكَتٍ يَقصدهَا المُتَكلّمُ وَأعمّهَا استجلابُ المُخاطَبِ لِيَتَوَجَّهَ إلَى مَا يُلْقَى إلَيْهِ بِكُليَّتِه. وإلَى ذلكَ يُشيرُ صَاحبُ الجَوهر المَكنون [76] بقوله:
والالـتِفـاتُ وهَو الانْـتِقـالُ مِن *** بَعضِ الأساليب إلى بَعض قَمِن
والوَجهُ الاسْتِجلابُ بالخِطَاب *** ونُـكَـتٌ تَــخُصُّ بَعــضَ البَــاب
145.والإشارة في قوله تعالى: “هَذَا” إلَى مَا تَقَدَّمَ مِن أَنْواعِ العَذَابِ المُعَدَّةِ للمُكَذِّبينَ. والنُّزُل هو الرِّزقُ الذي أعْدَدْتُه للمُكذّبين بيومِ الحِساب، قَالَ ذَلكَ تَهَكّمًا بالمُكذّبين وزيادةً في التّنكيل بهم. والتّرهيب للمؤمنين مِن جهة ذِكْره مَا حَلَّ بالمُكَذِّبينَ، وتَرغيبًا لَهم فيمَا هُم عَلَيه من الإيمان بِيَوْمِ الحِسَابِ الذي نَجَّاهُم من سوء العَذاب. ويومُ الدّينِ هُو يَومُ الجَزَاء الذي يُدَانُ فيه كلُّ امرئٍ بمَا كَسَبَ. “هَل تُجْزَونَ إلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلونَ”. ومَا يَكْتَسبه الاعتقادُ أَعْظَم فَما جَزاهم الحقُّ بِهذا النُّزُل إلاّ بِسَبَبِ تَكذيبهم بيومِ الدِّين واعتقادُهم أنَّ الأرْحَامَ تَدفَع والأرضَ تَبلعُ. ثمَّ خَاطبَ تَعالى المكذّبين لأجل تَنبيههم من نَوم غفلتهم وإقامة الحُجَّةِ عَلَيْهِم وإلزَامِهم باعتقاد النّشأة الأخرى وتَكلّم بضمير الجمعِ جَريًا على عادة العرب تَرهيبًا للمُخاطَبينَ فَقالَ تَعالَى:
146. نَحْنُ خَلَقْنَاكُم(60)
أَيْ أَنَّنَا خَلقْنَاكم وجميعَ العَالَمِ وأَنتمْ تُقرّونَ بِأنَّ خالقَ الأكوان إنّما هو البَاري جَلَّ شَأنُهُ. “ولَئنْ سَألتَهمْ مَن خَلقَ السَّمواتِ والأرْضَ لَيَقولَنَّ اللهُ [77]”. غَيرَ أنَّكم في لَبْسٍ مِن خَلقٍ جَديدٍ.
فإذا أقْرَرْتُم أنّنا خَلَقناكمْ وأَوْجَدْناكُمْ ولَم تكونوا شَيئًا مَذْكورًا:
147. فَلَولاَ. أي فهل. تُصَدِّقونَ(60)
بِالنَّشأة الأُخْرى وتُؤمنونَ بها وتَعتَقدونَ أنَّنَا سَنُنْشِئُكمْ فيمَا لا تَعلَمونَ، فَهلْ اسْتَعْجَزْتمْ قُدرتَنَا والحَالُ أنَّكم أقْرَرتُمْ بما هو أعْظَمُ عِندكَم وأكبرُ وهو إيجادُنَا لَكُمْ ولَم تَكونُوا شَيئًا، إذْ أنَّ إيجادَ الشَّيء بَعدَ أنْ لَمْ يَكُنْ أعْظَمُ وأكْبَرُ من إيجادِهِ بَعدَ أنْ كَانَ. وهذَا فيمَا يَظهَرُ للبَشَرِ الضَّعيفِ فَهو إلْزامٌ لَهم بما يَرَوْنَه ويَعتَقدونَه وإلاّ فَإنَّ اللهَ عَلى كلِّ شَيءٍ قَدير.
148.المعنى: يَلزَمُكم أنْ تُصَدّقوا بِالنّشأة الأخْرَى لِأنّهُ لا حُجَّةَ لَكُمْ تَعتَمدونَها. ولَولاَ للحَضِّ الذي هو الطَّلَبُ بِحَثٍ وإزْعَاجٍ، كَأنَّه طَلَبهم بالتّصديق بيومِ الدّينِ وَحَثِّهم عَلى ذَلكَ. وهَذِه حُجَّةٌ أولَى عَلَيْهم وهَيَ أنَّ اللهَ خَلقَهم مِن لاشَيءٍ، ثمَّ أقامَ عَليهم حُجَّةً ثانيةً وهي خَلقهم من شيءٍ يَرونَهُ وهو النُّطفَةُ فَقالَ تَعالى:
149. أَفَرَأيْتُم ما تُمْنونَ(61)
أيْ أَخبِروني عَن الذي تُمْنُونَه أي تُلْقونَه في الأرْحامِ مِن النُّطَفِ:
150. أَأَنْتمْ تَخْلقونَه(62)
حَتَّى يَتكَامَلَ منَ النُّطفَة إلى العَلَقَةِ إلَى المُضْغَة إلى العِظَام إلى كَسْوِها لَحمًا إلى نَفْخ الرّوح فيه إلى نَشْئِه خَلقًا آخَرَ. كَلاًّ [78] .
151. أمْ نَحنُ الخالِقونَ(63)
أَيْ بَل نَحنُ الخالِقونَ لِما تُمْنونَهُ، ولكلِّ شَيءٍ، لا غَيرُنا. وأنتُم تُقِرُّونَ بذلكَ وتُؤمنونَ به. فَإذَا صَدَّقْتُم بِأنَّا خَلَقْناكم بِقُدْرتِنَا العَظيمَة مِن لاشَيءٍ، وخَلَقنَا مَا تُمْنُونَه فِي أرْحامِ أزْواجِكِم مِن النُّطْفَة المَهينَةِ فَلا تُصدِّقونَ أنّنَا قادِرونَ علَى أنْ نُعيدَكُم في خَلقٍ جَديدٍ تُسألونَ بَعدَه وتُحاسَبُونَ عَمَّا كُنتُمْ في هاته الدّارِ تَعْمَلونَ وتَعتَقدونَ. فاللاّئقُ بكم والوَاجِبُ عَلَيْكم وهو الأنْفَعُ لَكم هو الإيمانُ بالبَعثِ بَعدَ المَوْتِ لأنَّ مَن خَلَقَكُمْ وخَلَقَ مَا تُمْنونَ قَادِرٌ عَلى إعادَةِ خَلْقِكُمْ.
152. – لَطيفَة [79] – إذا تَأمَّلَ العاقِل بِعَيْن بَصيرَتِه وَأوْقَدَ مِن نُورِ إيمَانِه مِصْباحًا يَستَضيءُ به رَأى مِن هَاتِهِ الآيَة مَثلاً للخَلْقِ والأمَانَةِ والبَعث، فَهي بِحالِها تَنْطِقُ وتَشهَد بالبَعث إذِ النُّطفَةُ التي يُمْنيهَا الرّجلُ لاَ شَكَّ أنَّها كَانت حَيَّةً، جُزْءًا من الإنسانِ، تَتَنَعَّم وتَتَألّمُ ثمّ انْفَصَلَت عَن وُجودِهَا وأُقْبِرَتْ في رَحِمِ الأمِّ، ثمَّ بُعِثَتْ خَلقًا آخرَ وبَشَرًا سَويًّا. فَتبارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخَالقينَ.
وقَولُه جَلَّ وعَلاَ:
153. نَحْنُ قَدَّرنَا بَيْنَكُمُ المَوتَ(63)
حُجَّةٌ ثالِثَة عَلى المُكذِّبينَ أيْ نَحنُ قَضَيْنا بَينَكمُ المَوتَ في سَابِقِ عِلْمنَا وَحَكَمْنَا به عَلَيْكم، لاَ غَيرُنا، وأَنتُمْ تُقِرُّونَ بذلكَ لِتَحَقُّقِكُمْ أنّ ذلكَ ليسَ مِن فِعل البَشَر ولاَ مَدخَلَ لَكم فيهِ ولاَ لِغَيْرِكُمْ. فَلَوْ أَوجَدْناكُم وَأعْدَمْتُم أنْفُسَكم لاسْتَعْجَزْتُم [80] قُدْرَتَنَا عَلَى إعادَتِكُم وتَسَنَّى لَكم إنكارُ البَعْثِ، ولَكنَّكُمْ تَعلمونَ أنَّ الأمْرَ كُلَّهُ بِيَدي وأَنا الفَاعِلُ المُخْتَار، فَلماذَا تُؤْمِنونَ بِبَعْضٍ وتَكفُرونَ بِبَعْضٍ. خَلَقنَاكُم أوَّلاً، ونَمَّينَاكُم ثانيًا، ونُعيدُكمْ ثَالِثًا بَعد إقامَة الحُجَجِ والأدِلَّةِ عَلى كُلِّ صيغةٍ. هَدَّدَ المُكذبين بيوم الدّين فَقال لَهم جَلَّ وعَلاَ:
154. ومَا نَحْنُ بِمَسْبوقينَ(63) عَلَى أنْ نُبَدِّلَ أمْثالَكُمْ(64)
المَسْبوقُ عَلَى الشّيء هو المَغلُوبُ عَلَيْه. والمَعنَى: مَا نَحن بِمَغلوبينَ ولا عاجِزينَ عَلى أنْ نُبَدِّلَكُمْ ونُبَدِّلَ أمْثالَكمْ كَيفَمَا بَلَغتِ غَايَةُ عَدَدِكُم وعَدَدُ أمْثَالِكُمْ بمن نَشاءُ ونُريدُ.
ويَحتَمِلُ أنْ يَكونَ المَعنَى: نُبَدِّلَ أمْثالَكُم فَنَجْعَلَهم مَكانَكُمْ وعلى كِلا الاحْتِمالَيْن لاَ يَكون البَدلُ مِثلَ المُبْدَلِ مِنهُ فَي الأخْلاق والاعتِقاد، بَل يَكون البَدَلُ أسْلَمَ في الاعْتِقاد وأفْضَلَ في الامْتِثال والانْقياد.
ولَمَّا عَلِمَ أنَّ المُخاطَبِينَ مُنْكِرونَ لهذَا الخَبَرِ، أكَّدَهُ بالبَاء مِن قَولِه: بِمَسْبوقِينَ. وقوله:
155. وَنُنْشْئَكُم فيمَا لاَ تَعْلَمونَ(63)
مَعطوفٌ عَلى قَولِه: “نُبَدِّلَ” دَاخِلٌ في الحُكْم المَنْفِيِّ. والمَعنَى ومَا نَحن بعاجِزينَ عَلى أنْ نُنْشِئَكم أنْتم أنفسَكم في خَلقٍ جَديدٍ، لا تَعلَمونَه لأنّه لم يَسبِق له مِثالٌ في الخَلق. وقد قال تعالى:“ويَخلق ما لا تعلمون، إنّ الله على كلّ شيء قدير [81]”.
ثمّ بَعدَ أنْ أقامَ عَلَيهِم الحُجَجَ والبَراهينَ وهَدَّدَهُم بِتَبديلِ أمْثالِهم وإنْشائِهم فِيما لاَ يَعلَمونَ، أخَذَ في تَقريعهم وتَوبِيخِهم عَلى عَدَمِ التَّفَكُّرِ والتّدبُّرِ وإقامَة الأدلّة على البَعث مِن تِلقاء أنْفُسِهِم فَقالَ تَعالى:
156. وَلَقَد عَلِمْتُمُ النَّشأةَ الأولَى(65)
أيْ إنَّهُ تَحَقَّقَ عِندَكم علمُ النَّشأةِ الأولى وهَي التُّرَابِيّةُ بالنسبة لِأبينَا آدَمَ، عليه السّلام. والمائِيَّة بالنّسبة لمن خُلِقَ في الأرْحَام.
والمَعنى: تَحَقُّقَ عِنْدَكُمْ وعَلِمْتُم أنَّ النَّشأَةَ الأولى لم تَكُنْ شَيئًا فَأنْشِأَت خِلْقَكم [82] منها:
157. فَلَولاَ تَذْكُرونَ(65)
أيْ فَهَلاّ تَذكرونَ. فَهو حَضٌّ ضَمَّنَه تَوبيخَهُم وتَقريعَهُمْ فَكأنّه قالَ لَهم: فَلم لا تَذكرونَ؟ ولا تُقيمونَ الأدلّةَ عَلى البَعث؟ والحَال أنّها ظاهِرَةٌ يُدركها كلُّ مَن لَه أدْنَى نَصيبٍ من الإدراك، والحالُ أنّي وَهَبْتُكم آلَةَ التَدَبُّرِ والتَذَكُّر التي هي العَقْلُ. قَد عَلمتم أنّا خَلَقْنا النَّشأَةَ الأولى فَلِم لا تَقيسونَ عَلَيْها النّشأةَ الأخيرَةَ وتَعلَمونَ أنّي قادرٌ عَلى أنْ نُحييَ الموتى ونُجازيهم [83] بما كانوا يكسبونَ.
واعْلَم: أنَّ أوّلَ مَا يَتَذكّر فيه الإنسان هو نَشْأة نَفْسه وهو الأجْدَر به، ومَن ضَرَبَ صَفحًا عَن التّذكّر بأصل خِلقَتِه وَأخذَ يَنظر لِغَيرِه فَقَدْ حَادَ عَن سَواءِ السَّبيل ولذلك قَدَّمَه تَبارَكَ وتَعالَى في قَوله: ولَقد عَلمْتمْ النّشأة الأولى فلولا تَذَّكرونَ [84]. وتلكَ هيَ الرُّتبَةُ الأولى فِي التَّذَكُّر والاعْتِبَار. وأمّا الرّتبة الثّانية فَهيَ أنْ يَتَذَكّرَ الإنسانُ في مَعاشِه وما يُصلحُ ذاتَه وتَقومُ به وذلكَ هُو الطّعامُ وما يُصْلِحُه والشَّرابُ، ولذلكَ بَدَأَ بالطّعام فَقالَ تَعالَى:
158. أَفَرَأَيْتُم ما تَحْرُثونَ (66) أَأنْتُمْ تَزرَعونَه أمْ نَحنُ الزّارعونَ(67)
الحَرْثُ هو إثارَةُ الأرْضِ وإلقاءُ البَذْرِ فيها. والزَّرْعُ طَرْح البَذْرِ في الأرْضِ، ويُطْلَق عَلى الإنْبات فَتَقول: زَرَعَ اللهُ الحَبَّ أيْ أَنْبَتَه.
وهوَ خِطابٌ يَقْرَع به مُنْكِري البَعثِ ويُوَبِّخُهم عَلى عَدَم تَأمّلهِمْ وَتَدَبُّرِهِم فيما تَقوم به ذَواتُهُم وهوَ مَأْكولهم، فَكَأنَّه يَقول لَهم: أفَرَأَيْتُمْ مَا تَحرثونَ منَ الحُبُوبِ وتُلْقونَه بالأرْضِ أَفَأَنْتم تُنْبتونَه أم نَحنُ المُنْبتونَ. فَلا شَكَّ أنَّكم تَقولون في جَوابِ هذا الاستفهام: أنْتَ المُنْبتُ الزَّارعُ، ولا شَيءَ لَنا فيه إذْ كلُّ إنسانٍ مِن أيِّ طَبَقَةٍ كَانَ يَعلم يَقينًا أنّه إنَّما أَلْقَى في الأرضِ حَبَّةً يابِسَةً لاَ زَائدَ عَليْها ولا دَخلَ لَه فيما وَراءَ ذلكَ، وبَعد مُدَّةٍ مِنَ الزّمانِ تَليق بها، تَقتَضيها الحِكمَة الإلهيّةُ يَخْرُج نَباتُها بإذْنِ رَبّها فَتكونَ تَامَّةَ الخِلْقَة، مَتينَةَ السّاقِ، طَيِّبَة الثَمرَةِ. وكلُّ إنسانٍ يقرُّ بِأنَّ المُنْبتَ قُوةٌ إلاهيّةٌ غَيبيّةٌ تَعجِزُ عَن إدْراكِها العُقُول. فَإذا أَقْرَرْتُم بذلكَ فَلِمَ لا تُؤْمنونَ بِأنَّ اللهَ يُحيِي العظامَ وهي رميم؟ وأنَّ مَا أُقبِرَ مِن بَذْر الآدَميينَ يَقدر اللهُ عَلى إنْباتِه وإحْيَائِه بَعدَ إماتَتِه. فَكانَ منَ الواجب عَلَيْكم أن تَجعلوه بُرهانًا على بَعثِكم وأنَّكُم تَخرجونَ من الأجْداثِ كَما أُخْرِجَتِ النَبتَةُ مِن بَطن الأرْض.
ثمَّ هَدَّدَ سُبحانَه وتَعالَى مُنْكِري البَعْث وَخوَّفَهُم بِأنَّه لَو يَشاءُ ويُريدُ أنْ يَذهَبَ بِطعامِهم ويَقطَعَ أقْواتَهم ومَا تَقوم به ذواتُهُم لَفَعَلَ، إذ هو عَلى كلّ شيءٍ قديرٍ فَقال:
159. لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطامًا(68)
ضَميرُ الغَيْبَة في قَولِه: “لَجَعَلْنَاهُ” يَعودُ عَلى المَزْروعِ المَفهومِ مِن قَولِهِ: “تَزْرَعونَه” والحُطَامُ المُكَسَّر مِن الشَّيءِ اليابِسِ، وكَذلكَ الحِطَمَةُ بِكَسْر الحَاء، والحُطَمَة بِضَمِّها مَعناها واحِدٌ [85]. وقَد سَمَّى ما تَحويه العاجِلَة حُطامًا لِفَنائِه واضْمِحلالِه. أي فَلَو شَاءَ اللهُ لَجعَلَ ما أَنبَتَه لَكم بَعدَما ظَهَرت نَتيجَتُه وفَرَحُهم به حُطامًا وهَشيمًا تَذرُوه الرّياحُ لَفَعَلَ:
160. فَظَلْتُم تَفَكَّهونَ(68)
ظَلْتُم بِفَتْح الظّاء وكَسْرهَا، وَظَلِلْتم، بِكَسر اللاّم الأولى، مَعناها واحِدٌ وهوَ الدّوامُ عَلى الشَّيءِ. يُقال: ظَلَّ فُلانٌ يَكتُبُ إذَا اسْتَغرَقَ نَهارَه في الكِتابَة. وتَفَكَّهونَ مَعناه تَعْجَبونَ.
والمعنى: فَبَقيتُم دَائِمينَ عَلَى التَعَجُّب مِمَّا أَصابَكم من حَطْمِ زَرْعِكُم حَالَةَ كَونِكُم تَقولون:
161. إنَّا لَمُغْرَمونَ(69)
المُغْرَمُ هو المُلْزَم بِدَفْع غَرَامَةٍ. فَكأنَّهم لِخَسَارَة مَا أَنْفَقوه عَلى زَرْعِهم مَلومُونَ بِدَفْعِ غَرَامَةٍ، ولِأجْلِ تَحَقُّقِ خَسارَتِهم جَمَعوا لَها مُؤَكِّدَيْنِ [86] وهُما إنَّ واللاّمَ وهْوَ إخْبارٌ مِن بَعْضِهم لِبَعْضٍ.
وقَولُه:
162. بَلْ نَحْنُ مَحْرومونَ(70)
إضْرابٌ [87] مِنهُم عَلى الحُكْم السَّابِق وإثباتٌ لِحُكْمٍ آخَرَ وهو حِرمانُهم ممّا حَرَثوهُ بَعد نَتيجتَهِ وإينَاع ثَمْرَتِه. فَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعلَ حَرْثَهُمْ حُطامًا وتَرَكَهمْ يَموجونَ في بَعْضِهِم، مُختَلفَةً عقولُهُم، تَارَةً يَقولونَ إنَّا لَمُغْرَمونَ وتَارَةً يَقولونَ بلْ نَحن مَحرومونَ، ومَا هَدَّدَهم الحَقّ تَعالى بذلكَ إلاَّ لِعَدَمِ تَفكيرهم وتَدبُّرِهِمْ في حَرْثِهم، ولَم يَجعلوه دَليلاً عَلى ثُبوتِ بَعثِهِمْ، وكانَ من حَقِّهم أنْ يَتَفَكّروا فيه، لِأنّه أقرَبُ شيءٍ إلَى التَّدبّرِ، وكَيفَ لا وهو مَعاشُهُم الذي يُقْتاتُ وتَقوم به الذَّواتُ فَهَلاَّ يَتَوَصّلونَ به إلى مَعادِهم وقَولُه تَعالَى:
163. أَفَرَأَيْتُم الماءَ الذي تَشْرَبُونَ(71)
تَوبيخٌ لَهم أيْضًا عَلى عَدَمِ تَذَكُّرهم وتَأمُّلِهِم في الماءِ الذي يَشرَبونَه وهو عَذْبٌ فُراتٌ، سائِغٌ شَرابُه. وكلّ مَاء يَنزِلُ مِن السَّماءِ صَالحٌ للشَّرَابِ عَلى تَفاوُتِه في الحَلاوَة، إذِ الماءُ النّازِلُ من السَّحاب الأبيضِ أَحْلَى من النّازلِ من السَّحابِ الأسْوَدِ [88]. ثمَّ بَعدَ قَراره في الأرض يَتَلَوَّنُ بِلَوْن مَجْراه فَيَشوبُه طَعْمُه حَسَبَ مَعْدَنِه الذي استقرَّ فيه.
وقَولُه تَعالى:
164. أَأَنْتُم أَنْزَلْتُموهُ مِنَ المُزْنِ أم نَحْنُ المُنْزِلونَ(72)
اسْتِفهامٌ تَقريريٌّ. فَقَدْ تَقَرّرَ عِندهم أنَّهم عاجِزونَ عَن إنْزالِ الماءِ مِن المُزْنِ وأنَّ ذلكَ لَيسَ مِن فِعْلِهم ولا مِن فِعلِ أَحَدٍ مِن المَخلوقاتِ، فَلا شكَّ يَكون جَوابُهُم : مَا نَحن أنْزلْناه مِن المُزْن ولا أحدٌ مِن المَخلوقاتِ، فَلَم يبقَ إلاّ أنَّ اللهَ أنْزَلَه مِن السَّحابِ وَسَلَكهُ يَنابيعَ في الأرْضِ ثمَّ أخْرَجَه مِنها لِيَنتَفعَ به عبادُه وبَهيمَتُه وبِلادُهُ.
فَلمَ لا تَجعلونَ إنْزالَهُ من المُزْن إلى بَطْنِ الأرْضِ ثمّ إخْراجُه مِنها دَليلاً عَلى البَعْث بَعدَ المَوتِ.
قَد اشْتَغَلوا عَمّن أنْعَمَ عَلَيهم بِنِعمَتِه، فَشربوا الماءَ الذي أنْزَله لَهم مِن المُزْن ثمَّ كَفروا بِه. ألاَ “لَعنَةُ اللهِ عَلى الكافرينَ” [89].
165.وَهاتِه الآيَةُ تدلُّ عَلى أنَّ الماءَ وإنْ كانَ في العُيونِ والآبَارِ، فَهو نَازِلٌ مِن السَّحابِ والأمْطَارِ. وقَد صَرّحَ الله، تباركَ وتعالى، بهذا المعنى في قوله: “ألَم تَرَ أنَّ اللهَ أنْزَلَ مِن السَّماء مَاءً فَسَلكَه ينابيعَ في الأرضِ” [90].
ثمَّ هَدَّدَهمْ تَبارَكَ وتَعالَى فَقالَ:
166. لَو نَشاءُ جَعَلْنَاهُ أجَاجًا(73)
الأُجاجً هو المُرُّ الشَّديدُ المُلوحَةِ [91].
والمَعنى: لَو نَشاء ونُريدُ أنْ نَجْعَلَه شديدَ المُلوحَةِ بِحَيْث لا تَقْدرونَ عَلى شُرْبِه، فَعَلتُ ذلكَ فَلا تَجدونَ مَا تُبَرِّدونَ به غُلَّتَكُمْ [92] وتُطفِئونَ حَرارَةَ عَطَشِكم، فَلْتَأتوا بعدَ ذلكَ بِقَطرَةٍ من الماءِ – كَلاّ – بِيَدي مَلَكوتُ كلِّ شَيءٍ.
167. فَلَولاَ تَشْكرونَ(73)
أيْ فَهَلاَّ تَشكرونَ اللهَ، تَباركَ وتَعالى، الذي أَمَدَّكُمْ بِهاته النِّعْمَة العَظيمةِ، نِعمةِ الماء الذي أنْزَلَه مِن المُزْن، بِقُدْرَتِه القَاهِرَة وعَظَمَتِه الباهِرَة، ولاَ يَقدر عَلى ذلكَ غَيرُه، وأَنتمْ تُقِرُّونَ بذلكَ، وتَعتَرفونَ به، فلماذا لاَ تُقرّونَ بأنَّ اللهَ مُحييكُم ومُميتُكم ومُوجِدُكُمْ بَعدَ الموتِ. ولماذا لا تَشكرونَه، ولا عُذرَ لَكم في ذلكَ. “قُلْ أَرَأَيْتمْ إنْ أَصبَحَ مَاؤُكُم غَوْرًا فَمن يَأتِيكم بماءٍ مَعينٍ [93]”.
ثمَّ أخَذ في الكلام عَلى مَا يَصلُح به المَعاشُ وهو النّارُ فَقال تَباركَ وتعالى:
164. أَفَرَأَيْتُمُ النّارَ التي تُورُونَ(74)
يُقال: أوْرَى الزَّندَ، إذا أخْرجَ منهُ النّارُ. والعَربُ كانوا يَحُكُّونَ عودَيْنِ، أحَدهما على الآخر لاستخراج النّارِ، ويُسمُّونَ الأعلى منها زَنْدًا بالتّذكير، والأسفل زَنْدَةً بالتّأنيث [94].
وهَذا الاسْتِفهام تَوبِيخيٌّ لِمُنكِري البَعث. كَأنّه يقول لَهم: أَفَرَأيتم النّارَ التي تُخْرجونَها مِن عُودَيْنِ.
165. أَأَنْتُم أَنْشَأتُم شَجَرَتَها أمْ نَحْنُ المُنْشِئونَ(75 )
فَلا شكَّ أنَّكمْ تَعترفونَ بأنَّ اللهَ هُو الذي أنْشَأَ جَميعَ الأشْجارِ، ولا قُدْرَةَ للعَبْد عَلى إنْشَاءِ شَيءٍ من ذلكَ. فَلمَ لا تَجْعَلونَه دليلاً قاطعًا عَلى أنَّ اللهَ، تَعالى، يُنْشِئُ العِبادَ تارَةً أُخْرى، ويَبْعَثُهم إلى مَعادِهِم كَما أنْشَأَ الشَّجَرَةَ وأنْبَتها. ما هو إلاّ انعكاسٌ في نُور البَصيرة.
وإلاّ فَكُلُّ مَن لَه مُسْكَةٌ من العَقل يُدْركُ أنَّ اللهَ مُبْدِعُ السَّمَواتِ والأرضِ، فَعَّالٌ لِما يُريدُ، يُبْدي ويُعِيدُ، وهو عَلَى كلِّ شَيءٍ قَدير.
ثمَّ اعلمْ أنَّ إضافَة الشَّجرة إلَى ضَميرِ الغَيْبَة العائدِ علَى النّار في قوله: “شَجَرَتَها” يُشير إلَى أنَّ للنّار شَجَرَةً مَخصوصَةً كالمَرْخِ والعُفارِ، وهما شَجَرتَان تُقْدَح منهما النَّارُ وهما رَطْبَتَان. هَكذا عَرَّفُوهُما [95] غيرَ أنَّهما لَيسَتا مَعروفَتَيْنِ بِبَلَدِنا [96].
والأوْلَى تَعميم :الشَّجرة وأنَّها كلُّ ما يَصلح لِوَقودِ النّار. عن ابن عبّاس، رَضيَ الله عنهما،: “ما مِن شَجَرَةٍ ولا عُودٍ إلاّ فِيه النّار سوى العناب”. ذَكَره في حَاشِية الجَمَل عَلَى تفسير الجلالين.
عِبْرَتَان: في هاتِه الآيَة عِبرتان.
الأولى: خَلْقُ النّارِ من الشّجرة وإخراجُها مِنها فَهيَ عِبرة لِمَنْ اعتَبرَ أنَّ اللهَ يَخْلقُ ما يَشاءُ مِمَّا يَشاءُ وهو قَادِرٌ عَلى النَّشْأَة الأخْرى كَيفَ يَشاءُ.
الثّانية: إنْشَاء الشَّجَرة مِن عُودٍ يُغْرَسُ أو مِن حَبَّةٍ تُبْذَرُ. فَمَن تَأمَّلَها لا يَلبث أنْ يَقولَ إنَّ اللهَ يَبْعَث مَن في القُبور.
ثمَّ أخَذَ في بَيان مَنْفَعَة خَلْقِ النّارِ، فَقالَ تَعالى:
168. نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ومَتاعًا للمُقْوينَ(76)
ذَكَرَ لِخلق النّار فَائِدَتَيْنِ.
الأولى: جَعْلُها تَذكِرَةً للنَّاس يَتَذَكّرونَ بها نارَ جَهَنَّمَ، فَالإنسانُ في كَثيرٍ من حَاجَاتِه يَتَذَكَّر مَا أوْعِدَ به الجاحِدونَ ويُعاقَبُ به المُخالِفونَ. ويَقْوَى خوفُه مع تَذَكُّرِه إذا عَلمَ أنّ النّبيء، صلّى الله عليه وسلّم، قال: “نارُكُم هَذه التي توقَدونَ جزءٌ منْ سبعينَ جزءًا مِن نارِ جَهَنَّمَ. قالوا: وَاللهِ، إنْ كانَت لَكافيَةً يا رسول الله؟ قال: إنَّها فُضِّلَت عليها بِتِسعَةٍ وستّين جزءًا، كُلّها مثل حَرّها [97]".
الفائِدَة الثّانية: جَعَلَها مَتاعًا للمُقْوينَ. والمُقْوي هو النَّازِلُ في القَواء وهْيَ القَفْراءُ.
قال الخازن [98]: “وهْو قَولُ أَكثر المُفسّرينَ”. ولا تَخفى مُتْعَة النّار للنّازل في الأرض القَفراء.
والمُقْوي أَيْضًا مَن خَلا بَطْنُه ومِزْوَدُه مِن الطَّعام، وهَذا غَيرُ ظاهرٍ تَمَتُّعه بالنّار.
والذي يَظهرُ، والله أعلم، أنّ المُقْوينَ هم النّاس جميعًا، سُكانُ هاته البَسيطةِ. حَكاه ابن جَرير الطبريُّ في تَفسيره [99] عَن مُجاهِد وغيره. فإنّهم [100] مُسافِرونَ نازِلونَ في هاتِهِ الدَّار الشَّبيهَةِ بالقَوَاءِ وهْيَ القَفرْاءُ منَ الأرْض.
أمّا كونها قَفرَاءَ فَما هي إلاّ فَانيةٌ زائلةٌ. وَصفَها اللهُ تَعالى بقوله: “ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ” [101]. وبقوله: “وَمَا الْحيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ” [102].
إنّمَا الدّنْيا هَباءٌ لَيسَ للدّنيا ثُبوت
إنّما الدّنيا كَبَيْتٍ نَسَجَتْها العَنْكبوتُ [103]
وَأمَّا كَونُ النَّاس فيها كالمُسافِرينَ أو مُسافِرينَ حَقيقَةً أنَّ النبيء، صَلّى الله عليه وسلّم قال: “كُنْ فِي الدّنْيا كأنّكَ غَريبٌ أو عابِرُ سَبيلٍ [104]".
وقَال مَا معناه: “إنّما مثل الدّنيا كمثل شجرة استظلّ تحتها الرّاكب ثمّ راحَ وتَرَكَهَا [105]”. وقد قال تعالى: “ثمَّ إلَى رَبِّكُم تُرجَعونَ” [106]. وقد قال : "وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون [107].
والرُّجُوع والانقلابُ لا يَكونَانِ إلاّ مِن سَفَرٍ. فالتّمتّع بالنَّارِ لِجَميع سكّان البسيطة الذينَ نَزلوا بها، ومِنْها إلَى رَبِّهم يَرجِعونَ.
177.هَذا، وقَد شاهَدْنا تَمَتُّعَ أهلِ البَسيطة بالنّارِ، لا فِي طَعامِهِم ومَطَابِخِهم فَقَطْ، بَل في سَيّاراتِهم وقِطارِهم وطَائِرَاتِهم وغَوّاصَاتِهم، يَطْوي المُسافر عَلَيهَا مَسافَةً بَعيدةً في ساعات قليلةٍ، واللهُ أعْلَم بما فِي غَيْبِهِ. “ويَخْلقُ مَا لا تَعلَمونَ [108]”. فالحَاصِلُ أنَّ اللهَ خلقَ النّارَ لفَائِدَتَيْنِ: دُنْيَويّة وأخْرَويّة. وقَدَّمَ في الذِّكْرِ الأخرويّةَ لأنّها أعظمُ فائدةً وأتمُّ نَتيجةً لأنَّ مَنْ تَذَكَّرَ نارَ الآخرةِ، امْتَلأَ قَلبُه خوفًا فَأخَذَ في الأعْمَالِ الصّالِحة ومَا يُقَرِّبُ إلى الله زلفَى. فَيكونَ مِمَّن يُخاطَبُ بقوله: “ادخلوا الجنّة بما كنتم تعملون” [109] و“ذلك هو الفوز العظيم [110]”.
178.أمّا الفائِدَة الدّنيويّة فهي - وإنْ عَظُمَت- ما هي إلاّ قَضَاءُ مَآرِبَ تَفْنى بِفَناء الحَياة الدّنيَا التي هي “لَعِبٌ ولَهْوٌ وللدَّار الآخرةُ خَيرٌ للذين يتقون أفلا تعقلون” [111].
179.ثمَّ اعلمْ أنَّ اللهَ تَعالَى قَد ذَكرَ النِّعَمَ التي أنْعمَ بها عَلى جَميعِ عِبادِه وهي إيجادهم منْ عَدَمٍ ومِن نُطْفَةٍ تُمْنَى، وإمْدَادُهم بمَعَاشِهم بما أنْزَلَه من الماء ومَا يُنْبِتُه في حَرْثِهم وبِما يُصْلِحُ المَعاشَ الذي هو النّار. وهاته النّعمُ التي هي الإيجَادُ والإمْدَادُ بالمَعاش وما يُصلِحُه هِي أمَّهاتُ النِّعَم البَشَريّةِ، ولهذا استغنى بها عَن بَقيَّة الجُزْئِيَّات من النّعم. وهذا يدلّ على أنَّ المُخَاطَبِينَ بذلكَ لَيسَ لَهم كبيرُ إدْراكٍ أو غَوْصٍ في المَعاني الغامضة، وإلاّ فنعمة الهَواء الذي يَتَغَذَّى به هذا الجِسْمُ الحَيَوانيُّ لَمِنْ أَكْبَر النِّعَم.
180.ونِعَمُ الله أكثرُ مِن أنْ تُحْصَى وعَلى كلِّ حَالٍ فَكلُّ نِعْمَةٍ من النِّعَم السّابقة آيةٌ بَيِّنَةٌ تَدلّ أنَّ اللهَ تَعالى يَبعث مَن في القُبور، غَيرَ أنَّ مَن أضَلَّه وخَتَمَ عَلَى قَلبهِ حُرِمَ مِن لَذّة التَفَكّرِ والاعْتبارِ. والعِبْرَةُ تَحْصُلُ بالبَصَائِر لاَ بِمُجَرَّدِ الأبْصَارِ. ومَن هَدَاه اللهُ تَعالى أَلْهَمَه إلَى التَّدبّر والاسْتِبصار وأمَدَّهُ بالنِّعمَة الرّوحيّة بَعدَ النّعمَة البَشريّةِ، وَرَفَعَه دَرَجَةً عَلِيَّةً وطالَبَه بالشّكر عَلى مَا أَنْعَمَ به عَلَيه، ولِذا خَاطَبَ سُبحَانَه وتَعالى نَبِيَّه بِقولِه:
181. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظيمِ(77)
وَالأمْرُ لَه، صَلَّى الله عَلَيه وسلّم، أَمْرٌ لِأمَّتِه، إلاّ في خَصائِصِه، صَلّى الله عليه وَسَلَّمَ.
أَمَرَ سُبحانَه وتَعالَى في هاته الآيةِ نَبِيَّهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسلّم، بِتَسْبِيحه وتَنْزِيهِهِ عَمّا لا يَليقُ. بَل لِأجْل القِيامِ بِشُكْرهِ عَلى هَاته النِّعَم التي يَغْفَل عَنها أهلُ الغِوايَة، وأدْرَكَها أهلُ الدِّرَايَة، وعَلى رَأْسِهم النَّبيُّ، صَلّى الله عليه وسلّم.
ومِثلُ ذلكَ كثيرٌ في القرآن: فَقَد أمَرَه في سورَةِ الأعْلَى بِتسبيح رَبّه الذي أنْعَم بالخَلْق والتَسْوِية والتَّقدير والهِدايَة وإخْراج المَرْعَى. وما هِيَ إلاّ نِعَمٌ عَظيمَة يَلزَم تَسبيحَه تَعالى، شكرًا لَه عَلَيْها.
وذَكَرَ لَفظَةَ الاسْم، وإدْخالُ حَرْف الجَرِّ [112] عَلَيْه يَدلّ على أنَّ التَّسبيحَ يَكونُ بِذِكْر اسْم الله تَعالى، كَأَنْ يَقولَ: لاَ إلهَ إلاّ اللهُ، أو:
الله، أو: يَا لطيف، أو: يا حَيُّ يا قيّومُ، أو يَذكرُ أحَدَ أسْمائِه الحُسْنَى. “ولِله الأسْماءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِها [113]”.
فَذَاكرُ اللهِ بِأحَدِ أسْمائِه الحُسْنَى مُنَزِّهٌ لَه تَعالَى عَن كلِّ نُقْصانٍ، مُوَحِّدٌ بالقَلب واللّسان، شاكر لَه على نِعمته التي لا يُحصيها الحُسْبان.
هذا، وقَد جاءَ عنه، صلّى الله عليه وسلّم، أنّه لَمّا نَزلَت هذه الآية قال: “اجعَلُوها في رُكُوعِكُم [114]”.
فكانوا يقولون في الرّكوع: سُبحانَ رَبّي العَظيم.
وعَلَيه فَيكون المعنى: قُل: سُبحانَ رَبّيَ العَظيم. ذَكَرَهُ النَّسَفيُّ فِي تَفسيرِه.
وَحَيثُ أنَّ الرَدَّ عَلى مُنْكرِي البَعث وإقَامَة الحُجَّةِ عَلَيْهم لا يَكفي عَن مُقارَعَة مُنكِري القُرآن والردِّ عَلَيْهم، إذْ كَمْ مُقِرٍّ بِالبَعْثِ مُنْكرٍ للقُرْآن [115]، أخَذَ في الكلام مَع هَذا النّوع الذي هو مُنكرٌ للقُرآن، فَقالَ تَعالَى:
182. فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجومِ(78)
لاَ زَائدَةٌ لِتَأْكِيدِ القَسَم وتَقويته. والمَعنَى فأُقْسِمُ فَهوَ قَسَمٌ. ويُؤَيِّدُه قِراءَة الحَسَن فَلَأُقسم. قَال القشيري: ولِله أنْ يُقسمَ بمَا يُريد، ولَيسَ لَنَا أنْ نُقْسمَ بِغَيْر اللهِ تَعالى وصفاتِه القَديمة [116]“، أيْ لِقَوله، صَلّى اللهُ عَلَيْه وسلّم:”مَن كَانَ حَالِفًا فَليَحْلِفْ بِاللهِ أوْ لِيَصْمُتْ [117]”.
ومَواقِعُ النّجوم مَحلُّ وُقُوعِهَا.
وهَل هي نُجوم القرآن؟ فَقد كَان يَنزل مُنَجَّمًا آياتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ. وهَو قول ابن عبّاس رضي الله عنهما. أو هِي نجوم السّماء وكواكِبُها، وعَلَيه فَهل مَواقِعُها هِيَ مَساقِطُهَا ومَيْلَهَا إلَى الغُروب آخرَ الليلِ، فَكأنّهَا سَقَطَت وهو قول قَتادَةَ وغَيره. أمْ هي مَساقِطهَا عندَ رَجْم الشّياطين حينَ اسْتِرَاقِ السَّمع أم انتثارُها المَذكورُ في قَوله: وإذا الكواكب انتثرت [118]. أمْ هي مَنازلُها ومَحَلُّ اسْتِقرارِهَا وهَو قَولُ عَطَاءِ بن أبي رَبَاحٍ، ورَواه مَعْمَر عَن قَتادة، ذَكَرَه الطبريُّ في تَفسيره [119].
وهْو أمرٌ عَظيمٌ يَحقُّ القَسَمُ به، إذْ كَثيرٌ مِن الكَواكِب يَعدلُ الواحدُ منها بالأرضِ أضْعَافًا مُضاعَفَةً، كَما أدْرَكَ ذَلكَ علمَاءُ الفَنِّ [120].
وقوله تعالى:
183. وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَو تَعْلَمونَ عَظِيمٌ(79 )
جُملَةٌ مُعتَرِضَة بَينَ القَسَمِ والمُقْسَم عَلَيْه لِبَيان أنَّ هَذَا القَسَمَ عَظيمٌ وهو كذلكَ، فإذا كانَ النَّجمُ الواحِدُ يَعدلُ بِالأرْض أضعافًا مُضَاعَفَةً، ومِنَ النُّجوم ما يَعدل بالأرض مَليونَ مَرّةٍ فَما هو قَدر عِظَمِ مَنْزِلَتِه؟ فَلا شَكَّ أنّها تَكون مِن أعْظَم وأعْجَب مَا يَتَصَوَّرُه العَقل. فَهو قَسَمٌ عَظيمٌ.
وفي تَفسير الألوسي: “وأخْرَجَ عبد الرّزاق وابن جرير عن قَتادةَ أنّها: مَنازِلها ومَجاريها” إلى أنْ قال: وتَخصيص القَسَم لأنّ لَه تعالى في ذلك من الدّليل على عَظيم قُدرَتِه وكَمَال حِكمَتِه مَا لا يُحيطُ به نِطاقُ البَيان [121]".
وهو أيْضًا قَسَمٌ عَظيمٌ عَلى هَاته الرّواية إذْ في مَنازِلِ النُّجوم ومَجاريهَا وعَدَم خُروج النَّجْم عَن مَجْرَاهُ ما فِيه من بَقاءِ هَذَا العَالَم الكَونيّ، وإلاّ لاخْتَلّ النّظامُ ورَجَّ العالَمُ رَجًّا، ومَا رَأينَا هَذَا الكونَ في أحسن تقويمٍ، كلٌّ مِن الشَّمس والقَمَر وغَيرهمَا في فَلَكٍ يَسْبَحونَ.
184وقولُه: “لَو تَعلَمونَ”. يَدلُّ عَلَى أنَّ المُخاطَبينَ به لا يَعْلَمونَ منَ النَّجمِ إلاّ كَمَا يَعْلَم أحَدُنَا مِن ضَوءِ المِصْبَاح مَثَلاً. ويُشيرُ إلَى أنَّه مِن المُمْكِنِ تَعَلُّقُ علمِ البَشرِ بذلكَ ولا يستحيلُ. نَعَم. قَد وَقَع ذلك بالفعلِ وأدْرَكَ عُلَماءُ الفَنِّ عِظَمَ الكَوكَبِ الواحدِ وعِظَمَ مَنْزِلَتِه، ومَا يَحمل مِن خَلقِ الله إلى اختلاف أشْكالِهم وأجْنَاسِهِم حَسْبَمَا هو مُشَاهَدٌ في هَاتِه الكُرَةِ الأرْضِيّةِ وإلى ذلك يُشير قَولُه، صَلَّى الله عليه وسلّم: “أُطَّتِ السَّماء وحَقُّها أنْ تَئِطَّ، مَا من موضعٍ إلاّ وفيه مَلَكٌ رَاكِعٌ أو سَاجِدٌ [122]”.
185.هَذا، وقَد أَلّفَ مَولانَا الأستاذُ الإمامُ سَيّدنَا أحمد العلاوي المستغانمي كتابًا سَمّاه: مِفتَاحُ الشُّهودُ في مَظاهِرِ الوُجُود [123]. ذَكرَ فيه عَظمةَ النّجوم ومنازلَها وما فيها مِنَ العَجائِبِ مَا يَبْهَرُ العُقولَ، وتَقفُ عِنده مَدارِكُ الفُحُول. وكلُّ مَن طَالَعَه بِعَيْنِ بَصيرَتِه قَال: مَا هو إلاَّ فَضلُ اللهِ وآيَاتِه، وسُبحانَ مَن يُؤتِي الحكمَةَ مَن يَشَاءُ.
ثمَّ أخذَ في الكلام عَلَى المُقْسَم عَلَيْه بعدَ أنْ أَكَّدَه بالقَسَمِ فَقَالَ:
186. إنّه لقرآن كريم(80)
أَيْ إنَّ هَذَا المَتْلُوَّ عَلَيكُمْ قُرآنٌ كَريمٌ، أَيْ مُكَرَّمٌ فِي نَفْسِه، وكَثيرُ الكَرَمِ لِكُلِّ مَنْ قَصَدَهُ، وَمَدَّ لَهُ يَدَ فَهْمِهِ فَيُعْطِيهِ مِنْ ثَمْرَةِ مَعانِيهِ مَا تُنْتِجُه رِياضُ مَبَانِيهِ، فَيَسْتَضيءُ بِنُورِهِ المُهتَدونَ، ويَسْتَدِلُّ بِآيَاتِهِ الفُقَهَاءُ والمُوَحِّدونَ، ويَسْتَمِدُّ مِنْ حِكْمَتِهِ الحُكَمَاءُ، ويَسْتَفِيدُ مِن بَلاَغَتِهِ الأدَبَاءُ.
فَالقرْآنُ مَلْجَأُ القَاصِدينَ وَمَرجِعُ المُسْتَرْشِدينَ، ورِياضُ العَاقِلينَ وبُستَانُ العَارِفينَ، وهْو أصْلٌ لِجمِيعِ العُلمَاء والحُكَمَاءِ والمُفَكِّرينَ، لاَ يَخِيبُ مَن يَقْصِدُهُ، ولاَ يَضِلُّ مَنْ يَعْتَمِدُه. والقُرْآنُ لاَ تَنْقَضِي عَجائِبُه. "قَدْ جَاءَكُم من الله نورٌ وكِتَابٌ مُبينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [124].
187 وقَد جَمعَ في هاته الآيةِ أربعَةَ مُؤَكِّدَاتٍ وهي القَسَمُ في قَوله: فَلاَ أُقسِمُ. وإنّ واللاّم واسميّةَ الجُمْلَة في قوله: إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَريمٌ. وهَذَا من شدّة إنكار الجَاهِلينَ وبُعدِهم عَن الاعتراف بالحَقّ المُبينَ فقالوا تارةً: “إنْ هو إلاّ أساطيرُ الأوّلين [125]” وتَارة “هُو قَولُ شَاعِرٍ مَجنُونٍ [126]” وتارة هو: “قَوْل كَاهن [127]” ولَيسَ لَهم عَقلٌ به يتذكّرون، ولاَ قَلبٌ به يَعقلون ويتدبّرون. وقد عَلمَ الحقُّ تَعالَى أَنّهُمْ مُصِرّونَ عَلَى الإنْكَارِ لأنّهُم لَيسوا بأهلٍ للاعْتبَار في مثل هَاته النازلة، ولذَلكَ جَمَعَ لَهم أكثرَ المؤكّداتِ وأَخْبَرَهُم خَبَرًا مُؤَكَّدًا يَليق بأمثالهم تأكيدًا للحُجَّةِ عَلَيْهِم. ثمّ بعدَ أن وَصَفَ القرآنَ بأنّه كَريم وَصَفَه بِصفَةٍ أخْرى وهَيَ قَولُه تَعالَى:
188.وهوَ خَبرٌ ثانٍ أيْ إنَّ الذي يَنْزِلُ عَلى مُحمّدٍ، صَلّى الله عَلَيه وسلّم، قُرْآنٌ كَريمٌ كَائِنٌ في كِتابٍ مَكنونٍ. والمَكْنُون هو المَصونُ المَستورُ. والكِتَابُ المَكنونُ هو اللّوحُ المَحْفوظُ على الأصحِّ.
وهَذا المَعنَى صَريحٌ فِي قَولِه تَعالى: “بَلْ هو قُرآنٌ مَجيدٌ فِي لَوحٍ مَحفوظٍ” [128].
وقيلَ: هو المُصْحَفُ.
وقيلَ: هِي صُحُفُ المَلائِكَةِ،
وقوله تعالى:
189. لا يَمَسُّهُ إلاّ المُطَهَّرونَ(82)
صِفَةٌ للكِتَابِ المَكْنونِ. والمُطَهَّرونَ هُم الذينَ طَهَّرَهُم اللهُ مِنَ الأَدْنَاسِ. والمُراد مِنَ المَسِّ لاَزِمُهُ وهو الاطِّلاعُ. والمَعنى أنَّ الكتابَ المَكنونَ لاَ يَطّلعُ عَلَيْه إلاّ الذينَ طَهَّرَهمُ اللهُ تَعالى. واللّفظ عامٌ فَيَشمَلُ كَلَّ مَنْ طَهَّرَهُ اللهُ مِنَ الرُّسُلِ والمَلائِكَةِ وخَواصِّ الأمَّةِ. وبَه قال الطّبري في تَفسيرِهِ ولَفظه: "والصَّوابُ مِنَ القَول في ذلك عندنَا أنَّ اللهَ تَعالى، جَلَّ ثناؤُه، أخْبَرَ أَنّهُ لاَ يَمَسُّ الكتابَ المَكنونَ إلاّ المُطَهَّرونَ، فَعَمَّ بِخَبَره المُطَهَّرينَ ولَم يُخَصّصْ بَعضًا دونَ بَعضٍ، فالمَلائكَة منَ المُطَهَّرينَ والرّسل والأنبياءُ من المُطَهَّرينَ وكلُّ مَن كانَ مُطَهَّرًا من الذّنوب فهو مِمّنْ استَثْنى [129]. اهـ.
190. فإنْ قلتَ: هَذا يَقتَضي أنَّ الصّالحينَ المُطَهَّرينَ من المُؤمنينَ يَطَّلعونَ عَلَى ذلكَ الكتاب المَكنون.
قلتُ: لَيسَ ذلكَ عَلَى الله بعَزيزٍ، فَكلّ مَن ارتَضاه الله أَطْلَعَه على غَيْبِه، إمَّا بِسَبب رُؤياه الصَّالحَة، أو بإلهامِ اللهِ لَه علمَ ذلكَ، أو بِالفِرَاسة، “فإنَّ المُؤمِنَ يَنظرُ بِنورِ اللهِ [130]”. وقَد وَقَعَ مثلُ ذلكَ لكثير من الصّحابة منهم سيّدنا عمر بن الخطاب وسيّدنا حُذَيفَةُ وسيّدنا أبو ذرّ ولكثير من التابعينَ وكثير من الصّالحين.
ومَعلومٌ أنَّ ذلكَ من كَرامَات الأولياء وأنّ ذلك عقيدة أهل السنّة، رضي الله عن جميعهم. ولا غرَابَةَ في ذلك لأنَّ المؤمنَ الصّادقَ الصّالحَ هو الذي يُناسِبُ حَاله حالَ الأنبياءِ، فَأُكرمَ بِنَوعٍ ممَّا أكرمَ به الأنبياءُ وهَو الاطِّلاعُ عَلَى الغَيبِ. قالَه القرطبي [131] ونقله في فتح الباري على صحيح البخاري [132].
191. هذا وقد نَقلَ الخَازن في تفسيره عند قوله تعالى: فَلا يُظهرُ على غَيْبِه أحَدًا إلاّ مَن ارتَضَى مِن رَسولٍ [133]. قَال الواحدي: وعِندي أنّ الآيةَ لا دَلالَةَ فيها على نَفي علمِ جَميع الغَيب، فَيَكفي في العَمَل بمقتضاه أنْ لا يُظهرَ اللهُ تعالَى خَلقَه عَلَى غَيبٍ واحدٍ مِن غُيوبِه فَنَحمِلَه عَلَى وَقتِ وُقوع القِيامَةِ، فَيَكونُ المرادُ من الآية أنَّه تَعالى لا يُظهرُ هَذا الغَيبَ لأحدٍ. إلى أن قال: ويَجوزُ أنْ يلهِمَ اللهُ بعضَ أوليائه وقوعَ بَعضِ الوَقائِع في المُستَقبَل، فَيخبر به وهو منْ إطْلاع اللهِ إيّاهُ على ذلكَ [134]. اهـ. باختصارٍ وتصرّفٍ.
وقال النسفي في تفسيره: "والوَليُّ إذا أخبرَ بِشَيءٍ فَظهَرَ فهو غيرُ جَازمٍ عليه، ولَكنّه أخبر بناء على رؤياه أو بالفراسة، على أنّ كلّ كرامة لوليّ فهي معجزة للرّسول. اهـ [135].
هَذا وقَد قَالَ مالك في مُوَطَّئِه في الجزء الأوّل منه: “أحْسَنُ مَا سَمعت في هاته الآية الكريمة”لا يمسّه إلاّ المُطَهَّرونَ"، إنَّما هي بمنزلة هذه الآية التي في عَبسَ وتَولّى، قول الله تبارك وتعالى: كلاّ إنّها تذكرة فمن شاء ذَكَره في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرفوعة مُطَهَّرَةٍ بأيدي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَة [136].
فَإن قلتَ: فَما هو سند الإمام مالك، رَضي الله عنه، في مَنعِ المُحدِثِ من مسّ المُصحف؟
قلت: هو مَا رَواه مالك في مُوطئه أيضا ونصّه: حَدّثني يحيَي عن مالك عن عبد الله بن أبي بَكر بن حزم أن لا يمسَّ القرآن إلاّ طاهرًا.
قَال مالك: "ولا يَحمل أحدٌ المُصحفَ بعلاقته ولا على وِسَادَته إلاّ وهو طاهرٌ. اهـ [137]. وذلك كلّه إكراما للقرآن وتعظيمًا له. وقوله تعالى:
192. تَنْزيلٌ مِن رَبِّ العَالَمينَ(83)
صِفَةٌ للقرآنِ، أيْ إنَّ هَذا القرآنَ مُنَزَّلٌ مِن رَبِّ العَالَمينَ، لا كَما يَدَّعِيهِ الكافِرونَ مِن أَنّه شِعْرٌ أو سِحْرٌ أو كَهانَةٌ.
ثمَّ بَعدَ أن ذَكرَ صِفاتِ القرآنِ العَظيمَةَ الجليلَةَ، وهْيَ أَنَّهُ “كَريمٌ”. و“فِي كِتابٍ مَكْنونٍ”. “تَنزيلٌ مِن رَبِّ العَالَمينَ”، أَقْبَلَ على مُنْكِري القُرآنِ والمُكَذّبينَ بِه واسْتَفْهَمَهُم استفهامَ إنْكارٍ وتَوبيخٍ فَقَالَ:
193. أفَبِهَذَا الحَديثِ أَنْتُم مُدْهِنونَ(84)
الإشارَة بِهذا للتّعظيم. و“الحَدِيثُ” هو القرآنُ، والمُدْهِنُ الذي يُظْهِرُ خِلافَ مَا يُبْطن كالمُنَافِق. والمُراد لازِمُهُ الذي هو الكُفْر.
والمَعنى: أَفَبهذَا القُرآن العَظيم الجَليلِ القَدْر الذي ذَكَرتُ صفاتِه الكامِلَةَ العالِيَةَ أنْتُم كافِرونَ غَيرُ مُؤمنينَ، إنَّه تَنزيلٌ مِن حَكيمٍ حَميدٍ.
194. وتَجْعَلونَ رِزْقَكم أنَّكمْ تُكَذِّبونَ(85)
أي تَجعلونَ رِزْقَكُمْ ومَعاشَكُم تَكذيبَكُم لِما نَزَلَ عَلى النّبيء، صلّى الله عليه وسلّم، كَأنّهم لشدّة التّكذيب ومَحبَّتِهم لَه جَعلوهُ رِزْقَهم ومَعاشَهُمْ عَلى حَدِّ قَولكَ: فُلانٌ جَعَلَ مَعيشَتَه وقُوَّتَه ذِكرُ اللهِ وَمَحَبَّتِهِ.
وهَؤلاء جَعلوا مَعيشَتَهم ورِزْقَهُم تَكذيبُ التَّنزيلِ.
ويَحتَمِلُ أنْ يكونَ الكلامُ عَلَى حَذف مُضافٍ ويَكون المعنى: وتَجعلونَ شُكرَ رِزْقِكم الذي رَزَقَكم الله به من أنواع المَعاشِ وهو رِزقُ الأشْبَاح، ومَا اشتمل عَلَيهِ القُرْآنُ مِن ضُروبِ المَعانِي وهو رِزقُ الأرْوَاحِ، أنّكم تكذّبونَ بَدلَ أنْ تَشكروا اللهَ تَباركَ وتَعالَى، وتُؤمِنوا بما أنْزَلَ عَلَى مُحمدٍ، صَلّى الله عليه وسلّم، مِن القُرآن ومَا أخْبَرَ به مَن يَجمع النّاسَ ليومٍ لا ريبَ فيهِ.
وعَلى كلّ حالٍ فَكأنّه يقولُ لَهم: بِئسَ مَا فَعلتُم ! وكانَ من الواجب عَلَيكم -وهْوَ الأولى لَكم- أنْ تَجعلُوا رِزقَكُم أو شكرَ رِزْقِكُم الإيمانَ والتّصديقَ بِأنَّ مَا نَزَلَ عَلى محمّدٍ، صلّى الله عليه وسلّم، قرآنٌ كَريمٌ نَزلَ به الرّوح الأمين على قَلبِه، ثمّ إنّه تَنازَلَ في الخطابِ وسَلّمَ تَسليمًا جَدليًّا في الجواب فقال تَعالَى:
195. فَلَولا إذَا بَلَغَتِ الحُلقومَ(86) وَأنْتُم حِينَئِذٍ تَنظرُونَ(87) ونَحنُ أقْرَبُ إلَيهِ مِنْكُمْ
لَولا للتَّحضيض [138] بمعنى: هَلاَ. والضّمير في: بَلَغَتِ يَعود على الرّوح المَعلومَة مِن الكلامِ. والحُلقُوم: مَجْرَى النَّفَس. وقَوله: تَنظُرونَ. أي بِأبْصارِكُم إلَى مَن بَلَغَت رُوحُهُ الحُلقومَ وتُشَاهِدونَ مَا حَلَّ به مِنَ الآلامِ والأهْوَالِ وتَتَحقّقونَ بِبَصائِركُم أنَّ ذلكَ الانتِزاعَ ومُفارقَةَ الرّوحِ للجَسَد لا مَدخَلَ لكم فيه، وأنّه شيءٌ وَرَاءَ طَوقِ البَشر.
وقَوله: “ونَحن أَقرَبُ إلَيه مِنكم” ضَميرُ الغَائِبِ عَائِدٌ عَلَى المُحْتَضِر الذي بَلَغَت روحُهُ الحُلقومَ، أيْ ونَحن أقرب للمُحْتَضِر مِنكم:
196. ولَكنْ لاَ تُبْصرونَ(88)
قُرْبَنَا لِجهلكم بِشؤوننا.
الإشارة: نَحْنُ أقْرَب للمُحْتَضِرِ مِمَّنْ حَضَرَهُ، بَل أقْرَبُ إلَيهِ مِن حَبْلِ الوَريدِ، بَل أقْرَبُ لِكلِّ شَيءٍ مِنْ كُلِّ شَيءٍ، قُربًا يَليقُ بِالعَظَمَةِ والجَلالِ، يَغيبُ فيهِ العارِفُ عَن وُجودِ الخَيَالِ. ولَكن لاَ تُبْصرونَ قُربَنَا لانْطِمَاسِ بَصائِرِكم بالإنْكار، وتَغَشِّي أبْصَارِكم بِالأغْيَار.
ثمّ أعادَ التَّحضيض وكَرّرَه للتوكيد فَقالَ تَعالى:
197. فَلَولاَ أنْ كُنْتُم غَيرَ مَدينِينَ(89) تَرجِعونَهَا
لَولا تَوكيدُ الأولَى تَوكيدًا لَفظيًّا.
والمَدين هو المَجْزِيُّ عَن عَمَلِه ومِنْه قَولُهم: كَما يَدينُ الفَتى يُدانُ. والضّمير في: “تَرْجِعونَها” يَعود عَلى الرُّوحِ. والمعنى: فَلم لا تُرجِعونَ الرّوحَ للجَسَدِ، وتَصدّونَها عَن مُفَارَقَتِه إنْ كُنْتم غَيرَ مَجْزِيِينَ ومُحاسَبِينَ بِعَمَلِكم يومَ البَعثِ.
198. إنْ كُنْتُم صَادِقينَ(90)
في زَعْمِكم واعتقادِكم أنْ لاَ بَعثَ وأنَّ الأرْحَامَ تَدفَعُ والأرضَ تَبلَعُ. فإذا عَلِمتم أنْ لا قدْرَةَ لَكم على إرْجَاعِهَا ولا بدَّ مِن انتزاعِها مِنَ الجَسَد ومُفارَقَتِها لَه، فَاعلَموا أنَّ اللهَ يَبعثُها بَعدُ حَيثُ يَشاءُ ويُحاسِبُها ويُجازيهَا حَسبَمَا يَستحقُّ صاحِبُها. والمَراتِبُ ثَلاثٌ:
الأولى: أشار لها بقوله تعالى:
199. فأمّا أن كان من المقرّبين (91)فروح وريحان
المُقَرّبُونَ: هم السَّابقون المذكورونَ أوَّلَ الأزْواج الثّلاثة صَدرَ السّورة.
والرَّوْحُ - بِفَتْح الرّاء- هو الرَّحْمَة مِن اللهِ تَعالَى، فَتَعُمُّ الاستراحَةَ والفَرَحَ ومنه قوله تعالى: “وَلا تَيْأَسُوا مِن رَوْح الله” [139]. أي من رَحْمَتِه.
والرّيحان هو رضاءُ اللهِ. حَكاهُ الرّازي [140]. فَمَن رَضِيَ اللهُ عَنه رَزَقَه وأَمَدَّه بمَا تَشتَهيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْينُ.
وقولُه تعالى:
200. وجَنَّتُ نَعِيمٍ(92)
مِن عَطْف العَامّ عَلى الخاصّ، أَي فَيُجازيه الحَقُّ بِهاتِه النِّعَمِ إنْ كانَ مِن المُقرّبينَ. المَرتَبَةُ الثانية ذَكرَها بقوله:
201. وأمّا إنْ كَانَ مِن أصْحابِ اليَمينِ(93)
المَذْكورينَ أوّلَ السُّورَةِ.
202. فَسَلام لَكَ منْ أَصْحَاب اليَمينِ(94)
والالتِفاتُ بالخِطابِ في قَولِه: - لَكَ - للتَّشريف لِصَاحِب اليَمين. قالَه أبو السّعودِ.
والمرتبة الثّالثة أشار لها بقوله تعالى:
203. وأمّا مَن كَانَ مِنَ المُكَذِّبينَ
بالبَعْثِ أو بِالقُرآنِ أو بِهمَا.
204. الضَّالينَ(95)
عَلى طَريق الهُدَى وهُم أصْحَابُ الشِّمال.
205. فَنُزُلٌ من حَميمٍ(96) وتَصْلِيَة جَحيمٍ(97)
قَد تَقدّمَ أنَّ النُّزلَ [141] هو ما يعدُّ لإكرام الضَّيف النَّازل. وتقدَّمَ أيضًا أنَّ الحميمَ من أسماءِ الأضْدَادِ، فَيُطلَقُ على المَاءِ الحَارّ وعلى المَاء البارد. وتَصلية الجحيم إدخاله فيها وتعذيبه بها. وهَاته الآية أعني قوله: فأمّا إنْ كَانَ منَ المُقَرّبين" إلَى آخرِ السّورة حَوصَلَة ما تقدّم من أوّل السّورة وفَذْلَكَته [142] ثمّ قالَ تَعالَى:
206. إنّ هذا لهو الحقّ اليقين(98)
الإشارة بِهَذَا إلَى مَا ذَكَره في هاته السّورة من ذكر الواقِعةِ وزَمَانِهَا، ومَا يَقع عندَها وذِكر الأزْواج الثّلاثة: السّابقين، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشّمال، ومَا يَجْزِي به كلَّ فَريقٍ. وذكرِ الأدلّة القاطعة والحُجَجِ الواضِحة السّاطعةِ، وإقامتها على مُنْكِري البَعْث ومُكَذِّبِي القرآن، وذِكر المُحْتَضَرِ وأنَّه لا بدَّ أن يكونَ فردًا من أفراد تلكَ الأزواج الثّلاثة. فهذا هو حَقّ اليَقين. والحقّ واليقين بمعنى واحد وهو الثّابتُ الذي مِن شَأنِه أنْ لاَ يُرَدَّ ولا يُدفعَ.
207. قَالَ النَيْسَابوري في تفسيره: "قَالَ أَهل اليَقين: للعِلم ثَلاثُ مَراتِبَ: أوَّلِهَا عِلمُ اليَقين وهو مَرتَبَةُ البرهان. وثَانيها: عَينُ اليَقين وهو أنْ يُرَى المَعلومَ عيانًا فَلَيسَ الخَبَرُ كَالمُعَايَنَة. وثالثها: حَقُّ اليَقين وهو أنْ يَصيرَ العَالَمُ والمَعلوم والعلمُ واحِدًا ولَعَلّه لاَ يَعرفُ حَقَّ هَذه المرتبة إلاّ مَن وَصَلَ إليها، كَما أنَّ طعمَ العَسَلِ لاَ يَعْرفُه إلاّ مَن ذاقَه بِشَرْطِ أن لاَ يَكونَ مِزاجُه ومَذَاقُه فَاسِدَيْن [143]. اهـ.
وقوله تعالى:
208. فَسَبِّحْ باسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ(99)
خِطابٌ مِن اللهِ تَعالَى لِنَبيّه، صَلَّى الله عليه وسلّمَ، يَأمْرُه فيه بِتَسْبيحِ رَبِّهِ الذي أَنزَلَ عَلَيه هَاتِه السّورَةَ، ومَا فيها من الآياتِ، فَيَجبُ تَسبيحُهُ شُكرًا لله تعالى على مَا تَفضّل به من هاته النِّعَم التي لا تُحْصَى والآياتِ التي لاَ تُسْتَقْصَى.
209. لذلكَ فإنَّ هَذَا العَبدَ الفقيرَ الفانِي، مُحمّد بن خَليفَةَ، بنَ الحَاج عُمَرَ، المَشهور بالمَدانِي [144]، يُسَبِّح عندَ خِتَام هَاتِه النِّعمَة، نِعْمَة التفسيرِ لهاته السّورة العظيمة شكرًا للهِ تَعالَى قَائلاً: “سُبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين [145]” “رَبّنَا اغفر لنا ولإخواننا الذين سَبقونَا بالإيمان ولاَ تَجْعَل في قلوبنَا غِلاّ للذينَ آمَنوا ربّنا إنّك رؤوف رَحيمٌ [146]”.
210. وكان الفراغ من تَبْيِيضِه يَومَ الأربعاء، الخَامسَ مِن شعبانَ، سَنَةَ ثمانٍ وأربعين وثلاثمائة وألف [147] من هجرة مَن بُعِثَ عَلَى أَكمل وَصْفٍ، صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وصَحْبِه وتَابعيهم وسلّم تسليمًا.