نبتدئ، على بركة الله، النشر التدريجي لكتابٍ نادرٍ، يَحمل قيمة تاريخية ودينية وثقافية كبرى، وهو كتاب “اللّباب في إثبات الحجاب بالسنّة والكِتاب”، الذي ألّفه الشيخ محمد المدني، رَضي الله، عنه رَدًّا عَلَى كتاب الطاهر الحداد “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” (تونس، أكتوبر 1930).
يظهر، في كتاب “اللباب” الوَجهُ الفقهي والحديثيّ من علوم سيدي الشيخ محمد المدني، الذي حاوَلَ إثباتَ ورود الحجاب في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، مع التأكيد على أنَّ الذين اعتَبَروه إثقالًا لحرية المرأة وحؤولاً دونها ودون التقدم، مخطئِون. كان دفاعه عن ستر المرآة قويًّا صادقًا، نابعًا عن طهارة ضمير ونقاء طوية.
رحمه الله برحمته الواسعة.
اللّباب في إثبات الحجاب بالسنَّة والكتاب
تأليف العالم الربَّاني الشيخ السيد محمد المداني، القصيبي المديوني
كان الله له آمين
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف. [1]
طُبِع بالمطبعَة التونسية، بنهج سوق البِلاط، عدد 57، تونس
بسم الله الرحمن الرحيم
1. الحَمْدُ للهِ ربِّ العَالمين، الرَّحمنِ الرَّحيم، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى النَّبي الكَريم، وعلى آله وأصحابهِ الذينَ هَدَاهُم اللهُ إلى الصِّرَاطِ الـمُسْتَقيم.
2. أمَّا بَعْدُ: فَيَقول العبدُ الفَقيرُ الفَانِي، محُمَّد بن خليفةَ بن الحَاج عُمَر، الـمشهورُ بالـمَدَاني:
3. إنَّ حجابَ الـمَرأة بمَعنى: سَتْرِ وَجْهِها، قد صارَ مَشهورًا لدى الخاصِّ والعامِّ، كالـمَعلوم من الدّين بالضَّرورَة. وقد جَرَى، على ذلكَ، عَمَلُ الـمُسلمين مِن يومِ نُزول الوَحْي بِآية الحِجَاب. ومِن يَومَئِذٍ دَخَلَ النِّساءُ في حِصْنٍ حَصينٍ، لا تَقدِرُ يَدُ البَغْي أنْ تَمْتَدَّ إلَيهِنَّ، ولا يَمَسُّهُنَّ أحدٌ بسوء. وتَدَرَّعَ [2] الرِّجالُ بِدِرْع العَفَاف، فَلا يَدورُ بخَلَدِ أحَدِهِم هَتكُ فضيلةٍ أو اكتساب رَذيلَةٍ. والنّادرُ في كلاَ القِسمَيْن حُكْمُهُ في الكتابِ مَسطورٌ، إلى هذا اليوم الذي انقَلَبَ فيه الرأسُ عَلى العَقِبِ. تَدحرَجَ طائفةٌ مِنَ النَّاس مِن عِزِّ الحِجَاب إلى ذُلِّ السُّفُورِ.
4. وما وَقَفَوا عندَ هَذا الحَدِّ، حتَّى قَاموا بمِعاوِلَ من ضَلاَلٍ لهَدْم سُور الشَّرع الحَصين، لا يَأتيهِ الباطلُ مِن بَيْن يديْه ولا مِن خَلفِه، يُمَزّقون جلبابَ العَواتق ذوات الخُدور. ومَا يُمَزِّقونَ إلا جِلبَابَ الحَيَاء منهنَّ، وهتكَ العفَّة منهمْ.
5. فَمِن هَؤلاء مَن يَقْفزُ وراءَ الدّائرة الشَّرعيَّة، بدون أن يتقيَّدَ بنصٍّ، أولئكَ يُنادونَ من مَكَانٍ بَعيدٍ، “إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا” (الفرقان: 44)، أولئكَ همْ الغَافِلونَ. والـمُرشدُ لهم كالـمُسْتَسْمِنِ ذَا وَرَمٍ، [3] والنَّافخ في غَيْرِ ضَرَمٍ [4]. يُقْرأُ عَليه قولُ الشاعر :
6. لقدْأسْمعتَ لو نَادَيْتَ حيًّا ***** ولكنْ لا حَيَاةَ لـمن تنادي [5]
7. ومنهم مَن [6] يَستند في مَدعْاه إلى أدلَّةٍ شرعيَّة، يُحَمِّلها ما لا تَحمله من أفهامهِ السَّقيمة وآرائِهِ العَديمة. ويحرِّفُ الكَلِمَ عَن مَواضِعهِ، فَتَراه في ذلك يَخْبِطُ خَبْطَ عَشواءَ، يَصيح بمِلءِ شِدْقَيهِ: لا حِجابَ في الإسلام، لا دَليلَ عَلَيه من كتابٍ أو سُنَّة. وغير تلكَ مِن العِبَارات التي اتَّخذ فيها إلَهه هَوَاه.
8. لا نُريدُ أن نَتَكَلَّمَ مع هؤلاء لأجل هدايتهم، فإنَّ الله يَهدي من يَشاء، إنَّما نريد أن نُبَيّنَ خَطأهُم فيما سَلكوه، أو نقول: ضَلالَهم فيما اعتَقدوه، إذ الأدلة الشرعيَّة من الكتابِ والسنَّة وعملِ السَّلَف الصَّالحِ مُتَضَافِرةٌ على ثُبُوتِ حِجاب المرأة، حسب ما تأتي مفصَّلةً في فُصولِها، إن شاء الله تعالى.
9. لا نُثبت هنا إلا ما ثَبَتَ في الشَّرْع الشَّريف، إذ الفِطْرة السليمَة، التي فَطَرَ الله الناس عليها، لا تَطمئن إلا بِآيةٍ مُنَزَّلة أو سنَّةٍ ثابتةٍ. ولا نريدُ أن نفرِّقَ بين الجهة الشرعيَّة والجهة الأخلاقيَّة، كما يَفعله بعضُهم، إذ مَهمَا ثَبَتَ النصُّ الشرعي إلا كانَ مَحشورًا فيه كلُّ مَصلحَةٍ، مدفوعًا عنه كلُّ مفسدة، وان لم تصل العقولُ إلى حكمته البالغة في هاته النازلة، نازلةِ الحجابِ، أو في غيرها من بقيَّةِ النَوازل، فإذا قرأتَ قَولَه تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ” [7] ، رَأيتَ أنها آية نزل بها الرُّوح الأمين، فيها مَا يُصلِح العبادَ في مَعاشهم ومَعَادهم، وإصلاح ذَاتِ بَينهم. و كذلك إذا سمعتَ قولَه صلى الله عليه وسلم: “اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحسنةَ تَمْحُهَا، وخَالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ [8]”، رأيتَ منهُ ما تغصُّ به بُطونُ الـمُجَلَّداتِ من جَميل الخِصال وكَريم الأخلاقِ.
10. وأما قولُه تعالى :“يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ” [9] ، فَفيه ما فيهِ مِن تَمَام الآدَاب وحِفظ ماء الـمُحَيَّا. وزَجر عوادي الشهوات التي تَفترس جمالَ الغانيات، وتَربية المروءة والعفَّة والصّيانة وحِفظ الأموال والأعراض والأنْسابِ. ومن طَبَع الله عَلى قَلبهِ، وجَعَل َعلى بصرهِ غشاوةً، لم يُدْرِكْ من ذلكَ قليلاً ولا كثيرًا، “ومَن لَم يَجعل الله له نورًا فما له من نور”. [10]
تمهيد
1. كُنْتُ، زَمَنَ قِراءَتِي بالجَامِعِ الأعْظَم، جامعِ الزيتونَةِ، عَمَّرَهُ الله، في عام أربَعَةٍ وعِشْرينَ وثلاثمئة وألفٍ هِجْريَّة [11] سَمِعْتُ أنَّ رَجُلاً يَهودِيًّا [12] كَتَبَ، في إحْدَى الجَرائِدِ، مَقَالاً يَنتَصِرُ فيه إلى السُّفور، ويُنكرُ وُجودَ الحِجَابِ في الشَّريعَةِ الإسلاميّةِ.
2. فَكَتَبَ في الرَّدِّ عَلَيه حضرَةُ العَالِمِ المُحَقِّقِ، الشَّيخ سيّدي مُحمد مَناشو [13] ، المُدَرِّسِ بالجامِع الأعظم، فَقَذَفَ بالحقِّ عَلَى البَاطل، فَدَمَغَهُ فإذَا هو زَاهِقٌ، جَزَاهُ اللهُ خَيْرً [14]
3. ثم صَدَرَ “أمْرٌ عليٌ” [15] من حَضْرَة المَرحوم، أميرِ الأمَرَاء، سَيِّدنا ومَولانا محُمَّد النَّاصر، باشا باي [16] ، صاحبِ المَمْلَكَة التونسيَّة، بِعَزل ذلك اليَهودِيِّ من مَنصِبِه، الذي كان مُوَظَّفًا فيه.
4. هاته واقعةٌ طال عليها الأمَدُ [17] . ولَم ينتَقِشْ في ذِهْني منها إلا هاتِه الكلماتُ، فَإن كان فيها زيادةٌ أو نُقصانٌ، فذلك مَا يَقضي به طولُ الزَّمَان. والنِّسيان من لَوازم بَني الإنسان.
5. ذَهَبتِ الليالي والأيامُ، ومَرَّتِ السِّنونُ والأعوامُ، وكنَّا نَظنُّ أنَّ الحُكمَ عَلى السُّفُور قد صَدَرَ، وقُطع دابِرُ كلِّ مُنْتَصِرٍ. وَقَرَأنَا على الزائغين: “سُيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُوَلّونَ الدُّبر [18] ”. وغَفَلْنا عن حِكمةِ الله.
6. الباطلُ لا بُدَّ لَه مِن جَوْلَةٍ. والحقُّ لا بُدَّ لَه من صَولَةٍ. فازدَادَ الطين بِلَّةً والمَرَضُ عِلَّة. وظَهَرَ كتابٌ مُعَنْوَنٌ بعنوان: “امْرَأتُنا في الشَّريعة والمُجتمع [19]”، سَوَّدَته يَد رجلٍ من الشَّكْلِ الأوَّل، يُلَقَّب بالحَدَّاد [20] ، فَكانَ الكتابُ وصاحبُهُ [21] حديثَ الـمُجتَمَعَات. وما مِن مُسلمٍ إلاَّ ويَرمِي الحدَّادَ بالإلْحَاد.
7. وكَتَبَ، في الرَدِّ، عَلَيهِ رجالٌ ذَوو أقلامٍ سائِلَةٍ وعُقُولٍ كامِلَةٍ [22] . أحْسَنَ اللهُ جَزاءَهُم. بيدَ أنِّي ما رأيتُ أحَدًا مِن رِجال الـمَجْلِس الشَّرِعيّ تَصَدَّى لِدفْع هذا الأذَى، وأزالَ عَن العَيْن القَذَى.
8. فَبَدَا لي أنَّ الرَّجلَ دونَ أن يقفَ لَهُ فَحلٌ من الفُحول، ويردَّ ما كَتَبَه بوجوهِ المَنْقولِ والمَعقول. لذلك اقتَضى نظرُ المَجلسِ الشَّرعيّ، بالحاضِرة [23] ، أنْ يَحْكمُوا عَلَيه بسَلبِهِ من “منحة التَّطويع”، التي كان قَد حَصَلَ عَلَيها، بعد تَلقيّهِ مَبَادِىءَ العُلوم. وهو نَظَرٌ سَديدٌ من رِجَال الشريعة المطهَّرَةِ. فَكَانَ لهذا الحُكمِ مَوقعٌ حَسَنٌ في قُلوبِ العَاقِلين.
9. هذا ولما وَقَعَ بيدي كتابُ الحَدَّاد، وطَالَعتُه من أوَّلِ كَلِمَةٍ إلى آخرِ حَرفٍ، علمتُ أنَّ الرَّجلَ من الذينَ زَيَّنَ لهم الشيطانُ أعمالَهَم، وأضَلَّهم عن سَبيل الرَّشَاد، فأصيبوا بِدَاء الإلْحاد: “ومَنْ يُضْلِل اللهُ فَمَا لَه من هادٍ” [24].
10. غَيرَ أنَّ الذي بَعثَني لتحرير هاته الرِّسَالة هو ما قرأتُه في ذلك الكِتَاب، من جواب المُدَرِّس الشيخِ عثمان بن خوجة [25] عن مَسألة الحجاب. فرأيته أنكرَ في جوابه وجود الحجاب في الشريعة الإسلامية وتهجَّم على من أثبتَ ذلك من الفقهاء والمفسرين، حتى قال في صحيفة 57، هكذَا بِالحرف الواحد: “أرْهَقوا فَصيحَ الآيات بما أرهقوا به وجوهَ الغانيات” [26].
11. وقال قبل ذلك في صحيفة 56 : “إنَّما يَنسبونَه إلى الدّين الإسلامي من إرهاق المرأة بسَتر وَجهها بين العموم تَقَوُّلٌ عَلَيهِ [27] ، وشَرْعٌ لِما لَم يَأذن به الله، مَنْشؤه اندفاعُ بعضٍ من المُفَسِّرين والفقهاء وَراءَ تأثير القوميّاتِ والأوساط التي يَنشأون بها” الخ ... ما أجابَ به، في تلك الصَّحيفَة، من تَهَجُّمٍ على كُمَّلِ الرِّجال، وإنكارٍ للحِجَابِ الثَّابت عند السَّلفِ الصَّالِح بِالأقْوَال والأفْعَالِ.
12. وأنا أقول: إذا ثَبَتَ هذا الجوابُ، وصَحَّ نَقْلُه عن الشيخ عُثمانَ، فما هو إلا رَأيٌ ارتَآه، وفِكرٌ نَضَجَ لَه، بِلا رويَّةٍ، ألقاهُ. ولكنِّي، مَع احتِرامي لكلِّ رَأيٍ سَديد، أقولُ بكلِّ صَرَاحَة: إنْ هَذَا إلاَّ خروجٌ عن المَحَجَّة، أو نقول، كما يقول العامة: “ما هو إلا دخولٌ وخُروج في الحُجَّة” [28].
13. ومن حِكَمِ أستاذِنا العلاوي [29] : “لا سُلطانَ للعَقْل مَعَ صَريح النَّقْل”. وإذا كانَ ذلكَ تزويرًا عليه من الحَدَّاد، وهو الرَّاجحُ عندي، فلا عَجَبَ في ذلك، إذ [30] الحَدَّادُ زَوَّرَ على الإسلام، فضلاً أن يزوِّرَ على أحد العلماء الأعْلام. وإني أرجو أنْ يَتَبَرَّأ الشيخُ عُثْمَان [31] من ذلكَ الجَواب، “ويَتوبُ الله على مَن تَاب”.
14. وبِسَببِ ما يَتَمَطّق [32] بِه بَعضُ الكَتَبة في مَسْأَلة الحِجَاب، وَقَع العَفيفاتُ المُحَجَّباتُ، رَبَّاتُ الصَّونِ، فيما وَقَعنَ فيه من التَّهتُّكِ والخلاعة وتَمزيق جِلبابِ الحَيَاء، الذي لا يأتي إلا بِخَيْرٍ. وما اقتَصَرنَ على كَشف الوجه والكَفَّيْن، بل ترى الحرَّةَ المَصونَةَ كاسيةً عاريةً. أجملُ أطرافِها، كالصَّدْرِ والنَّحر والزِّند، مَكشوفٌ يُرمى من العموم بالسِّهام، ومن التغزُّل بالنِّظَام [33].
15. وأنا أقول: اللهمَّ صَلِّ وسَلِّم وباركْ على سيدنا محمد صاحِبِ الآيات البَيِّنَات، والمُعجزاتِ البَاهرات القائل: “صِنْفَان مِن أهْلِ النَّارِ، لم أرَهما [34] بَعدُ: قَومٌ مَعَهم سياطٌ كأذناب البَقَر يضربون بها النَّاسَ، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ، مائلاتٌ مُميلاتٌ، رؤوسهن كأسنمة البُختيِّ المائلة، لا يَدخلنَ الجنةَ ولا يَجدنَ ريحَهَا، وإنَّ ريحَهَا لا يوجدُ مِن مَسيرَة كَذا وكَذا” [35] . رواه مُسلمٌ وغَيره، ورواه الحافظُ المُنذرِيُّ [36] في كتابه: "التَّرغيب والترهيب [37].