[1] بِسمُ الله الرحمن الرَّحيم
هَذَا جوابٌ عن سؤالٍ وَرَدَ على أستاذِنَا مِن حَاضِرة [2] قابس في قوله تعالى: “وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [3]” ]النساء: 141[
فأجابَ، رَضيَ الله عَنه، وأَرضَاه وجَعَلَ الحضرةَ مَثْوَاه:
أهلَ الصدق والصَّلاَح والذِّكْر وَالمَحَبَّة والفَلاحِ، إخوانَنَا في الله وَرَسوله بحاضِرَة قَابُس،
ثبَّتَنَا الله وإيَّاكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ المُستَقيم،
والسَّلامُ عَلَيكُم وعَلَى جَميع أَهلِ الرِّضا والتَّسليم، وَرَحمَة الله والبَرَكَة.
1- أمَّا بَعدَ السُّؤَال عَنكم رَعاكُمُ الله وَوَفَّقَنَا وإيَّاكُم لِمَا يُحِبُّه ويَرضَاهُ، فَإنِّي قَصَدْتُ بِهَذه الرِّسَالَة أنْ أُبَيَّنَ لَكم مَا كنّا تَذَاكَرنا فيه مِن مَعنَى قَولِه تَعَالَى: “وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً”.
2- والسَّببُ في ذلك أنَّه كَانَ سَأَلَنَا إذَّاكَ عَن هاته الآية أحدُ الإخْوَان وهوَ الفَاضِل السَّيّد الطاهرُ بن [4] ... قائلاً : إذا نَظَرنَا إلى الواقع رأينَا أنَّ اللهَ جَعَلَ للكافرين سبيلاً عَلَى المُؤمِنِينَ، والقرآنُ يَنفي ذَلكَ فَالمرغوبُ أنْ تَحُلُّوا عُقدَةَ هَذَا الإشْكَال [5] الذي ربَّمَا يَتَمَكَّنُ مِن القُلوب فَيَكونُ سيِّءَ العَاقبةِ عَلَى ضَعِيفِي الاعْتِقَاد.
3- فَأجَبتُه إذّاك قَبلَ مُرَاجَعَة بَعضِ التَّفاسير لعلمائنا الأوَّلِين، فَقلت له : يُحتَمَلُ أن يُجَاب بأنَّ اللهَ نَفَى جَعْلَ السَّبيل للكافرين عَلَى المُؤمنينَ يومَ القِيَامَة، فَيكون الحُكمُ عَلَى كلِّ فَريقٍ بمُسْتَقَرِّه الذي أَعَدَّه اللهُ لَهُ. “فريقٌ في الجنَّة وفَريقٌ في السَّعيرِ [6]”. وليس المرادُ بنفي السبيل نفيه في الدنيا لأنَّه قال قبل ذلكَ: “فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَومَ القِيَامَة... [7]”. ثم قال: “وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً” أي حينَ يَحكم بَينكم وبَينَهم.
4- وَيَحتَملُ أنْ يَكونَ الجَوَابُ أنَّ اللهَ لَم يَجعَلْ سبيلاً للكافِرينَ عَلَى المؤمنين بالنَّظَر لِقلوبِهم وإنْ جَعَلَ لَهم سبيلاً عَلَى أَبدَانِهِمْ.
5- وَلكنْ ظَهَرَ لي أنَّ هذَا الجوابَ الثاني لِدَفْعِ الصَّائل [8] فقط، فإنَّهُ قد رَأينَا مَن تَزَلزَلَ اعتقادُهُ وَبَدَّلَ الخبيثَ بالطيِّبِ والعِيَاذُ بالله تَعَالَى.
6- فَأجابَ السيِّدُ الطّاهر [9] ، السَّائلُ المَذكُورُ، أنَّه قد رَأَى الشيخَ محمَّد عَبدَه [10] يقول في هاته الآية: “إنَّ المرادَ بهم المُؤمنونَ الكاملونَ، فاللهُ لَم يَجعَلْ للكافرين سبيلاً على المؤمنين الكاملين، أمَّا نَاقِصُو الإيمان فَقد جَعَلَ الله للكافرين عَليهم سَبيلاً [11]”.
7- فَقلت له: وَلَو كَانَ الفَهم كما قال الشيخ محمّد عبده لقال: “وَلَن يَجعلَ اللهُ للكافرين على المُتّقينَ” دونَ أن نحتاجَ الى تقدير صفةٍ [12] في الآية. ثمّ إنَّ المؤمنين الكاملين في كلّ زمانٍ قليلون وإنْ لم يَخلُ منهم زمانٌ ولا مكانٌ.
8- وَهَذَا الفهم يقتضي إذَّاكَ جعل الله للكافرين سبيلاً على ضَعيفي الإيمان لم يكن علينا بأس إذا تَركنَاهم كذلك لأنَّ اللهَ قد جعل السبيلَ عليهم، ثمَّ إنَّ الكاملينَ نَرَاهم مع الناقصين تَحتَ السبيل حَيثما كَانوا.
ثم إنَّ الشيخَ مُحمد عَبده فسَّرَ هاته الآيةَ هو تحت سبيل الإنقليز فهو لَيسَ من كاملي الإيمان فما لَه يَتَجَاسر على تفسير القرآن الكريم الذي “لا يَمَسَّه إلا المطهَّرونَ [13]”؟
هذا مَا وقَعت المذاكرة فيه عندكم بالزاوية بحاضرة قابس أيَّها السادة الأبرار.
9- ثم لمَّا سافرت عَلَى إخوَانِكم بالمَحْرِص [14] وكان ذلك السؤال باقيًا في ذاكرتي وَرَدَ عليَّ جواب آخرُ عَلَيهِ: صُورَتُه أنَّ “لَنْ” وانْ كَانَت لِنَفْي الاستقبال ولكنها لا تدلُّ عَلَى تَأبيد النفي، فإذا قلت: “لَن يَقوم زيدٌ” فَليسَ مَعنَاه أنَّه لَنْ يَقومَ أبدًا، بَل مَعنَاه أنَّهُ لَن يَقومَ فِي المُسْتَقبَل ويُمكنُ أنْ يَقومَ بَعْدُ. فَعلَى هَذَا، المعنى: أنَّ اللهَ لَن يجعلَ سبيلاً في المستقبل ولكن يمكن أن يجعَلَه بَعدُ، لِعَدَم تَأبيد النفي بِ: لَنْ [15] .
10- هَذا كلُّه أجبنا به قبل مُرَاجَعَة تَفَاسير العلماء الأقدمين، وإنَّ مَا أَلجَأنَا لتعجيل الجواب بما فتحَ اللهُ به خوفُ أن يَتَمَكَّنَ ذلك الإشكالُ من بعض القلوب الضعيفة، فتكون عاقبتُه وخيمةً والعياذُ بالله.
11- ثمَّ لَمَّا رَجَعنَا إلى الزاوية وراجَعنَا تَفسير البيضاوي [16] وتفسير الألوسيّ [17] ، رَأَينَاهمَا ذَكَرَا في الجواب نقلاً عن المُتَقَدِّمينَ مَا مَعناه يُمكن: أنَّ اللهَ لَم يجعلْ السبيل للكافرين عَلَى المؤمنين يومَ القيامة حَسَبَ مَا ألهمنا الله به في الجَواب الأوّل.
ويمكن حَملُ السبيل على الحُجَّةِ فيكون المعنى: لن يجعل الله للكافرين حُجَّةً على المؤمنين، بل لِله ولِرَسوله الحجَّةُ البالغَةُ، وإنَّا دائمًا نَرَى حُجَجَ الله قائمةً في القرآن، والدِّين القويم، الصالحِ لِكُلِّ زَمَانٍ ومَكَانٍ. ومَا بالعَهد مِن قِدَمٍ.
12- وقَد صَدَرَ حُكمٌ بعَدليَّة التريبونال [18] بالحاضرة [19] في نازلة اسرائيليّة مَاتَ فيهَا يَهودِيٌّ مُتَجَنِّسٌ بالجنسيَّة الفَرَنسيَّة وخلَّفَ بَناتٍ وأولادًا. فَحَكَمَ المَجلسُ بالعَدليَّة الفرنسيَّة بالحجَّة القرآنيَّة “للذَّكَرُ مِثلُ حظُّ الأنثَيَيْن [20]”، الصَّالحَة للبشريّة، الجَارية على ما تَقتضيه الإنسانيَّةُ، ونُشِرَ هَذَا الحُكمُ في جَريدَة ليبريس [21] الفرنسية بعدد...
13- هذا هو المُرَادُ بـ: “السَّبيل” في قوله تعالى : “وَلَن يَجعَلَ اللهُ للكافرينَ عَلَى المُؤمنينَ سبيلاً”.
هذا مَا أمكنَ أن نُجيبَ به كَتَبنَاه لَكُم عَلَى أنْ يَكونَ شفاءً لما في الصُّدور، واللهُ وليُّ التوفيق.
وبَلِّغوا سَلاَمَنَا لكلِّ مَن يَجتَمعُ مَعَكُم لله،
وَجَميعُ إخوانِكُم يَسَلِّمونَ عَلَيكم.
والسلام مِن كَاتبه العبدِ الضعيفِ، محمد المدنيُّ العلاوي. اه.