الشيخ محمد المدني يتحَدّث عن الَقدَر

الشيخ محمد المدني يتحَدّث عن الَقدَر

[ar]الشيخ محمد المدني[fr] Cheikh Madani

الشيخ محمد المدني | Cheikh Madani


“عَلَى العاقِل إلاّ أن يَعترفَ بإحاطة القَدَر بِكُلّ فعلٍ من أفعال البَشَر، وتلكَ حكمة الله في خلقه لجميع الكائنات، قامَ بها ناموس الوجود، فَجَعل الخلقَ قِسمَين:

مُمْتَثلٍ للمَأمورات، ومُرتَكب للمَنهيات، ليَكون الجزاءُ نَوعَيْن:

نَعيمٌ وعقابٌ و﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾، وهي حِكمَة غامضةٌ، لا يُدرك ثَمرتَها إلاّ من ألقى نَفسَه في بحار التّسليم والرّضا، تُحَركها أمواج القَدَر والقَضا.

والمَـريضُ لا يَبْـَرأ من علّتـهِ إلاّ إذا سلّم نفسه للطَبيب يُقلّبه كيف شاءَ وأرادَ، ويَفعل به ما أدّته إلَيْه المعرفة والاجتهاد. فَيَجرح تارةً ويَقصُّ تارةً أخرى لتحصل العافية التّامة والرّاحة الشّاملة العامّة.

وأفعال الحَقّ، جلَّ وعَلا، قلَّ أن تُدركَ لِلخَلق، لِقُصورهم عن دَرك أقلِّ القَليل من ذلك، ولمّا علم الحقّ أنّ التّقصيرَ وَصفُ البَشَر، قال لهم في كتابه المكنون: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ

#الزاوية_المدنية
13 فيفري 2021

الأصول الدينية في شرح الرّسالة العلاويّة في البعض من المسائل الشّرعيّة

الأصول الدينية في شرح الرّسالة العلاويّة في البعض من المسائل الشّرعيّة

الأصول الدينية في شرح الرسالة العلاوية

تمهيد

في العشريّة الأولى من القَرن العشرين، نَظَم الشّيخ أحمد العلاوي (1869-1934) قصيدةً تتألّف من أَلفِ بيتٍ، على بَحر الرَّجَزِ، وسَمّاها : “الرّسالة العلاويّة في البعض من المسائل الشّرعيّة “. وكان الغَرَضُ منها ذكرَ أهَمّ الأحكام العَقديّة والشّرعيّة والرّوحيّة (التّوحيد والعبادات والتصوّف) في مَتنٍ واحدٍ، يَسهل على الطلاّب حفظُه وتمثّلُه. وفيها تعرَّضَ إلى الفُصول التي لا يَستغني عنها مسلمٌ يودّ معرفة أصول دينِهِ بأركانه الثلاثة، والاطّلاعَ على أُمَّهَاتِ المسائل والنّوازل. وقد خـتم هـذه القصيدة الكـبرى “بكتاب التّصوّف” في 132 بيتًا الأخيرة، حَلَّلَ من خلالها مذهبَ التّصوّف تحليلاً دقيقًا وغاص في خفايا النّفس ولطائف أسرار القلوب.

وقـد أشـار شارحُها الشّيـخ محـمّد المـدني إلى هـذه القـصيـدة في أحد كُتُبه قـائـلاً : “ونظّم (الشّيخ أحمد العلاوي) رسالةً تَشتَمل عَلى ألف بيتٍ، ابتـدأها ببيان ما يَلزم المكلّف من التّوحيد، وختمَها بجملة صالحةٍ من التّصوُّف يَحتاجها المُريد لما يَلزَمه من بيـان الخَلوة وكيـفيّة ذكـر الإسم الأعـظم، وما يَلـزم المـريد من الآداب مع شـيخه وإخـوانه وما يلـزمه أن يتحـلّى به من جمـيل الصّـفات وأنـواع المبـرّات. وجَـعلَ وسَطهـا فقـهًا في العـبادات، جَـمع فـيهـا ما تَـدعو الضّرورة له ويكـثر الاحتـياج إليـه، كالأضحـية والذّكاة، وبـيان ما يجـب علـى المكـلّف معرفـته في حـقّ سيّد الـوجـود، صلّى الله عـليـه وسلّم، وجـمع فـيها مـا تفـرّق في غيرها مـن شـتات المسـائـل بغـايـة الإيـجاز والإيـضاح، فهـي كافلة لمن أمعـن النّظـر فيـها بالتّحـصـيل والنّجـاح.(…) ولـقـد جعـلنا عليها شرحًا مختصرًا، جاء على حسب حالنا ولكنّه لم يُوفِ حقّ النّظام وعين الرّضا تقبله بسرور والسّلام”.

والجديرُ بالذّكر أنّ الأستاذ محمّد بن صالح التلمساني شرح هذه الألفيّة في كتاب : “الحُلل المرضيّة على الرّسالة العلويّة”، إلا أنّه اقتَصَر على 420 بيتًا الأولى فقط، في 28 فصلاً، ولم يتناول الجزءَ الخاصّ بالتّصوّف. ولذلك، ارتأى الشّيخ محمّد المدني، بِرًّا بشيخه وصدقًا في خدمته، أن يقوم بشرح كاملٍ لهذه القصيدة المباركة حتّى يُفَصِّلَ مُجْمَلَهَا ويُبَيِّنَ مُغْلَقَهَا. فكان هذا الكتاب “الأصول الدّينيّة” الّذي يقع في أكثر من 300 صفحة، وهو شرح مستفيض – حسب الفقه المالكي- لما ورد في “الرّسالة العلاويّة” من الأحكام الفقهيّة.
كما تَحسن الإشارة إلى أنَّ هذا الشَّرحَ تَمَّ في حَيَاة أستاذه الشيخ أحمد العلاوي، وبإذْنٍ منهُ صَريحٍ ومُبَارَكَةٍ كاملةٍ. يقول المُؤَلِّفُ، محمد المدني في مُقَدِّمَته : “فاستأذنتُهُ (أيْ الشيخ العلاوي) في شَرْحِهَا (أي الرسالة العلاَويّة) فَأَذِنَ لي وأشارَ عَلَيَّ أنْ أسيرَ حذوَ لَفظهَا وأنْ لاَ نأتيَ بالغريب مِنَ الكَلاَم. فَبِاللفظ المَألوفِ يَحْصُلُ المَرامُ”.

فهكذا التمس الشّيخ العلاوي من مريده اتّبَاعَ مَنهج التبسيط والتيسير مراعاةً لِفَهْم أَغْلَبيَّة النَّاس وجُمْهُورِ الفقرَاء والقرّاء، لأنَّ الغايَةَ هي نَفع الجَمِّ الغفير ولَيس تَحقيق المسائل وتحريرها على طريقَة كِبَار المُدَقِّقينَ والمتكلّمينَ.
هذا، وتتألّف هذه الرسالة المُطَوَّلة من ثلاثة أبوابٍ كبرى :

أ‌- كتاب العقيدة.
ب‌- كتاب الفِقه.
ت‌- كتاب التصوّف.

1. كتاب العقيدة

إنَّ مَوضوعَ علمِ الكلام هو الله تعالى. فهوَ أشرفُ العلوم وأعلاها، لِعُلوّ مَوْضوعِه وشَرفِه على سَائِر الموضوعات. وطريقةُ هذا العلم إمَّا نَصبُ الدليل وإقامة البرهان، وإمَّا معرفةٌ بالذَّوق والوِجدان وإدْرَاكٌ لصِفَات الله وعَلَيِّ أَسمائِه بمُكَاشَفَةٍ وعِرفانٍ. ولا يزال عُلَمَاءُ الأمَّة يَكتبون في هذا العلِم ويُثبِتونَ مَعانيه بإحْدى الطَّريقتين : البُرهَان أو العِرفان. ذلكَ أنَّ أساسَ الدّين الإسلامي عقيدةٌ رَاسخَة صافِية، وأُولَى دَعائِمِه المَعرفَةٌ بالله وبصفاته وأسمائه، ثمَّ عَلَيهَا تُشَيَّدُ قواعدُ الشَّرع الحَنيفِ، ومَبَادِئ السُّلوكِ القَويمِ. ومَا اهتمامُ العلماءِ في كلِّ عَصرٍ ومِصْرٍ بإصلاح العقائد وتمتينها وبيانِهَا وتَهذيبها إلا ليبقَى علم التوحيد خالصًا من كلّ شائبةٍ.

وقد سَارَ الشيخُ أحمد العلاوي عَلَى هذا المَنهَج القَويم وخَصَّصَ الجزء الأوَّلَ من مَنظومة الرِّسَالَة العلاويّة لبَيَان عَقيدة التوحيد وما تنْطَوي عَلَيْهِ مِن أقسام الإلهيَّات والنّبويات والسمعِيَّات. وتَبِعَه في ذلكَ مُريدُه الشَّيخُ محمد المَدَنِيُّ فَخَصَّ هذهَ الأبياتَ بشَرحٍ دَقيقٍ وافٍ، بَيَّنَ فيه مَا يَنبَغي للسَّائِر في طريق الله مَعرفَتُه من قَواعِد العَقَائد وأصول الغَيبِيَّاتِ.

ويشتمل الجزءُ الأولُ من هذا الشَّرح على تَذكيرٍ سريعٍ بقواعد الإسلام والإحسان ثمّ على بَيَان مُوسّعٍ لقَوَاعد الإيمان وهو الغَرَضُ الأساسيُّ لهذا الباب. وقد ابتدأه الشيخ المدنيُّ بِلَمحَةٍ مُوجَزَةٍ عن حَيَاةِ الشَّيْخِ العَلاَويّ وعن آثاره ومَنَاقِبِه، ثم صاغَ ديباجَةً بديعة، وذكرَ بعدَ ذلكَ أوَّلَ مَا يَجبُ على المُكَلَّفِ مع بَيَان معنى “المُكَلَّف”، وتذكير بأركان الدّين الثلاثة ثم فصّل الحديث عن الإيمان بالله ورُسُلِه وكُتبه وملائكته واليوم الآخر والقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّه، وخَتَمَ بما يجب وما يَجوزُ ومَا يَستَحيلُ في حقِّ الله تَعَالَى.

منهج باب العقيدة

ويقوم منهج الشيخ المدني في شرحه لهذا القسم على قَواعدَ أهمها :

1. الاستدلال عَلَى العَقَائد بالقرآنِ والأحاديثِ الصَّحيحة. فالمعرفة الذوقيَّة التي يدافع عنها الشيخُ المدنيُّ في ثَنَايَا كتابِه هِيَ المعرفة السُنِيَّة المحمديّة الشرعيّة، التي يَستند كلُّ مَبدَأ من مبادئها على النّصوص المُحكَمَة المُقتَبَسَة من مشكاتَيْ الكتاب والسنَّةِ. وذلك حتَّى تَثبت معاني التوحيد والعقيدة داخل حظيرة النصوص الشرعية المطهرَّةِ ويُتَجَنَّبَ تكلّف المُتَكلمينَ.

2. التـأصيل الشّرعيّ لما وَرَد في الأبْيات، فما مِن مصطلحٍ دالٍّ على سلوكٍ أو فِكرة تناولها الشيخ العلاوي إلاَّ ويذكر لها الشّيخ المدني أصولَهَا الشرعية ويُبيِّنُ جذورَهَا، ومثال ذلك حديثُه عَن البَسملة والذِّكْر والأنبياء، كأنَّ هذه الرسالة باتَت ذريعةً للخَوض في أصول المسائل العَقَديّة وتحريرها على الوجه الأكمل.

3. الشّرح اللغوي : كثيرا ما يعرّج الشيخ المدني عَلَى المُفرَدَات الصّعبَة، فيشرحها شرحًا موجزًا، مثل ما ذَكَره بشأن مفردة “معتصمًا” وغيرها (ص. 20). كما كانَ يستدلُّ في شرحه بأبياتٍ من الشعر العربي القديم عمومًا، ومن الشِّعْر الصوفيّ خصوصًا حتى يضع المصطلحَ أو الفكرة في سياقها.

4. الاعتماد على الأدلَّة النقليَّة المبسّطة لوضوحها والابتعاد عن الأدلة الكلاميّة والجدليَّة وطَرائق السَّفسطة، التي حاربَها الإمام أبو حامد الغزاليّ، وكانت سائدة في كُتب علماء الكلام المتقدّمين. ولذلك استند الشَّيخ على الواضح البَيِّن من آراء العلماء الأشاعرة دون دخول في التفاصيل ولا ذكر لمسائل الخلاف والجزئيّات التي لا تفيد قارئ اليومَ، ولئن كان لها ما يبرّرها في الكُتب السابقة. وعند تفصيل الأمور الغيبية، نوّه الشيخ إلَى أنَّها بطبيعتها مخالفة للأفكار والأوهام ولا تدركُ بالعقول البشريَّة القاصرة والتعويل فيها على التسليم والإيمان.

5- التأويل : حيث يقول الشيخ محمد المدني بضرورة تأويل آيات القرآن وعَدَم حملها على ظواهرها، وذلك تماشيًا مع عَقَائِد أهل السنّة المحققين. ومثالُ ذلكَ الحديث عن عصمة الأنبياء، فينبغي تأويل ما وردَ في القرآن من آيات يوحي ظاهرها بنسبة التقصير إليهم، لتثبيت هذا المبدأ. ومن لَطيف تأويلاته أيضًا ضَرورة احترام الكُتُب المُقَدَّسَة التي هي الآن لَدى أهل الكتاب، لأنَّهَا تحتوي، رغم تَحريفها، على جزءٍ مِنَ الوَحْي الإلهيّ.

2. كتاب الفقه

“كِتاب الفِقه” هو أطول الأبواب الثلاثة وأوسعُها بيانًا وأكثرها تفصيلاً ومعلوماتٍ، فقد تَوَسّع الشارح الشّيخ المدني في ذِكْر الأحْكام الفقهيّة الخاصة بأقسام العبادات كلّها، مبتدئاً بِالطَّهارة ومنتهيًا بأركان الحَجّ وسننه، كما أضاف فصلاً متعلقاً بالسّيرَة النَّبَويَّة وبعض المعلومات المتصلة بالنّبيء الكريم، ذَكَرَها بعد الفراغ من قسم الحجّ، وكان ذلك منه على سبيل البَركة والتيّمُن، وجَريًا على سُنَن الفقهاء، مثلَ ابن جُزَيْ الغَرناطيّ، الذين كانوا يَختمون كتبَ الفقه بنبذة عن السيرة النبويّة المطهّرة.

وقد بنى الشيخ المدنيّ شَرحه للقِسم الفقهي على مبدأ التّفصيل بحيث عالَج كلَّ دقائق المسائل وفروعها، فعندما تَطرّق إلى فرائض الوضوء مثلاً توسّع في ذكر حُدود الوجه واليَدَيْن وتَفاصيل الغُسل والدَّلك، مما جعل هذا القسمَ أقرب إلى تحرير فقهيّ خاصّ. بل إنّ أبيات الأستاذ أحمد العلاوي المَشروحة تُصبح، في أحايين عديدة، مُجرد ذريعة يتوسّل بها الشيخ من أجل التوسّع في المسائل، وعَرض ما يتصل بها من المعلومات والتفاصيل التي يوردها بكل وضوحٍ ودقّةٍ.

ومن الطبيعيّ أن يكون الشيخ المدني قد عاد إلى الكتب الأصول في الفقه المالكيّ لاستشارتها وإثبات ما وَرَدَ فيها، وهي عين الكتب التي دَرَسها في جامع “الزيتونة”، حين كان طالبًا للعلم، فيها طيلة العقد الأول من القرن العشرين. وأهمّ هذه الكتب التي نقل عنها وذكر مواضعَ نَقله بكل أمانة هي “مختصر خليل” و”رسالة ابن أبي زيد القيروانيّ” فضلاً عن “متن ابن عاشر”، بشروحه “الصغرى” و”الوسطى” و”الكبرى”، إلا أنه كان يكتفي من كلامها بجُملٍ قصيرة وفقرات منتقاةٍ، يوردها فقط لبيان ما أثبِتَ في ألفية الشيخ العلاوي ويتقيّد بها، فلم يَنقل ما لا طائلَ من ورائه، وكلّ ذلك في عبارة موجزة ولفظ واضحٍ، لا ينسى كاتبُه أنّه يَتَوجّه به إلى قرّاء القرن العشرين في تونس والجزائر وأنّ الغاية منه هي الفهم والإفهام ونشر العلوم لدى عُموم المريدين وعامّة القرّاء
وأما اقتصارُه على باب العبادات دون المعاملات فيُعَلّل بتركيز الشيخ المدنيّ على ما يحتاجه المؤمن من الأحكام الشرعيّة في الحياة اليوميّة لأنّ مبادَلات البيع والشّراء أو الزّواج والطلاق وغيرها من تفاصيل المُعاملات والأحكام الجنائيّة هي مما يَعرض نادرًا للمؤمن، أو هي مما يَكتفي بمعرفته أهلُ الاختصاص ممن تلقّى زادًا كبيرًا وتكوينًا خاصًّا في هذا الحَقل الفقهيّ الدّقيق. وعلى هذا جَرَت كتبُ الفقه، في العصور المتأخّرة، مثل كتب الشيخ مَيّارة، وذلك لحمل الكافّة على الاعتناء بالعبادات وترك بقية الأبواب الدقيقة لأهل التخصص.

ويعدّ هذا القسم الثاني، المخصص لشرح الأحكام الفقهية، القسمَ الأهمَّ من حيث التفصيل وعدد الصفحات، فقد تَطرّق فيه الشيخ إلى كافّة الأحكام الفرعيّة التي تعترض المسلم في حياته التعبديّة، كما في معاملاته الاجتماعيّة والماليّة. وقد ذكر الشيخ هذه المسائل بوضوح وسلاسةٍ. وعادة ما كان يَقسم شروحه حسب الفُروض والسُّنَن والشّروط، فيرتبها ترتيبًا من أولها إلى آخرها لتجيء واضحةً ميسورةً. وقد اعتَمد، في بعض المواضيع، على آراء الشيخ سيدي خليل بن اسحاق المالكي، حلاًّ للإشكال وحسمًا للآراء المختلفة. ومن المعلوم أنّ “مختصر سيدي خليل” يعدّ المرجع الرئيس في المسائل الفقهيّة، وهو يتضمّن رَأي الجمهور والقول المشهور التي استقرّ عليه المذهب المالكيّ.

ولا شك أنّ تَخصيص القسم الثاني للأحكام الفقهيّة دليلٌ قاطعٌ على المكانة المكينة والرتبة الرّفيعة التي تحتلها الشريعة في بناء الطريقة المدنيّة العلويّة، فهي الأساس الذي انبنت عليه معارف الرّوح والأصل الذي شُيِّدَت وَفقَه معارجُ المعرفة. ولا شكَّ أيضا أنّ الشيخيْن، العلاوي والمدني، هدفا كلاهما إلى تَرسيخ الطّريق على أرضية الفقه وعلى مقولاته الشّرعيّة حتى لا يتّهما بتضييع الشرع والانجرار وَراء الشطحات. ولم يكن ذلكَ منهما مجرّدَ شعارٍ، وإنّما هو نهج متكاملٌ، كان الفقه في النقطة من مَركزه والمحلّ الأعلى من سَنَامه، وبهذا لعب هؤلاء الأعلام دورًا كبيرًا في الحفاظ على تراث الفقه المالكيّ، أثناء حقبة الاستعمار، كما في تَيسيره ونشره بين الأتباع، حتى لا تطمس الهويّة، بسبب السياسات التغريبيّة التي هَدَفت وقتَها إلى مَحو هذه الثقافة.

وقد التزم الشيخ المدني بشَرح “ألفية” شيخه وتقيّدَ بما ورد فيها من المعارف والأحكام مضيفًا إليها ما يَجب معرفته من التفاصيل حتى لا يظلّ كلام الشّيخ مُجملاً ولا تبقى فيه شائبة عمومٍ أو غموضٍ، هذا وقد أورد فيه من الفوائد والأحكام والقطعيات عددًا وافيا، مما يَجعَل من هذا النص مرجعًا مهمًّا في الفقه المالكي، ارتأى الشيخ المدني أن يسير فيه على نهج القدماء الذين اهتموا أكثَر ببيان الأحكام، كما وَرَدت عن السابقين ولم يعيروا كبيرَ اهتمامٍ لما طَرَأ على عصره من التغييرات، سائرين في ذلك على قاعدة عامّة مَفادها أن الأحكام الفقهيّة، ولاسيما في مجال العبادات، لا تَتغيّر بتحوّل الأزمان ولا تتجاوزها الحوادث، ولذلك نَجد إطلالات نادرة وإشارات عابرة إلى مَظاهر الجِدّة والحداثة التي شهدتها العقود الأولى من القرن العشرين.

هذا ولم يركّز الشيخ على الأدلّة النصيّة والتشريعية التي تعتمدُ عليها الأحكام ومنها تُستَنبط. ولعلّه لم يرد إثقال كتابه هذا بذكر الأدلة وبيان وجوه دَلالتها على الأحكام إجمالاً أو تفصيلاً. ومع ذلك، فقد أورد الشيخ بَعض الآيات القرآنية والأحاديث النّبويّة التي اعتُمدت في استخراج بعض الأحكام. وليس ثمّة من سبب واضح لعدم التزام خطّ واحدٍ في ذِكْر هذه الأدلّة النّصيّة من عَدمه إلا الرغبة في عدم الإثقال على القارئ وتقديم الأحكام مَيسورةً، دون ذِكر أدلّتها، وهي في الغالب متعارِضة الدلالة وأحيانًا غير قطعيّتِها. ولا ينبغي أن يَغرب على البال أنّ هذا الكتاب موجّه لجمهور القرّاء من الفقراء والمريدين، والغاية منه نشر المعارف الدينيّة وبثّها بين الناس حتى تكون يسيرةً في متناول اليد. وليس بكتابٍ موجَّهٍ إلى أهل الاختصاص.

3. كتاب التصوف

وأمّا كتاب التّصوّف فهو زبدة هذا المُصَنَّف وخلاصته، إذ هو القسم الأخير، وكأنّ الصفحات السّابقة إنّما هي إعداد للمريد وتهيئة له حتّى يغوص في أعماق الأحكام ويستشعرَ حلاوة العبادات. وقد تجوّل الشّيخ محمّد المدني في ثنايا المعرفة الرّوحيّة، وبسط القول في مبادىء التّصوّف ومقاماته الوسطى ونهاياته. فكان هذا الجزء تعريفًا بأهمّ المقامات والمدارج الّتي يتّبعها المريد حتّى يصل إلى معرفة ربّ العالمين.
وهذا ما يؤكّد أنّ الطّريقة المدنيّة العلاويّة هي طريقة المعرفة والوصول، وليست طريقة تبرّكٍ. ولذلك شرح الشّيخ كلّ العقبات والقواطع الّتي قد تقف في وجه السّائر، كما ذكر الأدوية الواجب اتّباعها للقضاء على آفات النّفس وأمراضها، أَكَـانَ السّائر مـريدًا مبتـدئًا أو شيـخًا واصلاً. فالكلّ يستوي في ضرورة التحلّي بآداب المعرفة وتزكية النّفس لإدراك مقام اليقين الأكمل.

وقد تميّز أسلوب الشّيخ محمّد المدني في هذا القسم، – كسابق عهده في سائر الكتابات والرّسائل- باليسر والوضوح معتمدًا على الأدلّة النّقليّة والعقليّة، يستعملها للبرهنة على الأفكار المعروضة، فبلغ كلامُه المدى في الإقناع والإفهام. كما نرى طول بَاعِهِ وتمكّنه من التّراث الصّوفيّ الأصـيل الّذي تركـه كـبار القـوم. فهـدفـه الأساسيّ هـنا التّذكـير بشـرعيّة ما يقوم به أهل الله الذّاكرون.

وهكذا يمكن اعتبار هذا الباب الثالث – على صغر حجمه – دستورًا متكاملًا لآداب السّير إلى الله تعالى. فيه ذكر الشّيخ محمّد المدني كلّ ما يحتاج إليه السّائر إلى حضرة الله، ولم يترك شاردة ولا واردةً تتّصل بعلم القوم إلاّ ذكرها، مستدلاّ عليها بقويّ الآثار وصحيح الأخبار وجميل الأشعار. وبهذا المنهج السّليم ردّ التصوّف إلى حظيرة السنّة النّبويّة المطهّرة. فكان في مطلع القرن العشرين ما كان عليه الإمام الغزالي في القرن الثّاني عشر. فكلاهما ربط التّصوّف بأنوار الشّريعة الطّاهرة وقيّد ما فيه من الرّياضات والآداب بتعاليمها وأحكامها الباهرة.

ولم يقتصر الشّيخ على ما في الرّسالة، بل تجاوزها وتوسّع في شرح معانيها حتّى قدّم إلى الطّالب كلّ ما يحتاج إليه من الأدلّة والمعارف. فهذا الكتاب هديّة من أثمن الهدايا إلى المريدين : فيه دلائل تفاني الشّيخ في خدمة الله الّذي لا يَأْلُ جهدا في التّذكير والإرشاد لعباد الله الذّاكرين، وخدمة شيخه أحمد العلاوي الّذي التزم بشرح كتاباته وحلّ مُغلَقهَا ومُجْمَلِهَا. وهو بهذا المقدار ينبئ عن تفانيه في خدمة شيخه ومريديه في ذات الآن.

وتكمن أصالة الشّيخ محمّد المدني في اعتبار التّصوّف الرّكن الثّالث من أركان الدّين الإسلامي، فلا يقوم تَدَيُّنٌ ولا يستقيم إيمان إلاّ إذا كانا مشيّديْن على هذه الأركان المتكاملة المترابطة. وكلّ ما في هذه الرّسالة إنّما هو تحرير مستفيض وتفصيل ممتع لعلم القلوب، مقام الإحسان، ومرتبة العارفين. فلا شكّ أنّ ما ورد فيه من الوصايا والمبادئ يحتاجه كلّ مسلم ينوي الخروجَ مِن ربقة التّقليد والوصول إلى مدارك الوصل والتّوحيد. وهكذا، يُظهرُ هذا الشّرح أنّ التّصوّف إنّما هو ركن الدّين الرّكين ومعدنه الأصيل، وكأنّ ما في الدّائرتين الأخريين (الإيمان والإسلام) هو تزكية للقلب وتهيئة للرّوح حتّى يشاهد المريد على وجه التّدريج مقامات المعرفة والتّفريد. وذلك لا يكون إلاّ بِجُمْلَةِ آدابٍ يتبعها الفقير مع الحضرة العليّة، ثمّ مع النبيّ صلوات الله وسلامه عليه، ثمّ مع شيخه ومع سائر المريدين والمؤمنين. وبهذا ضبط الشّيخ محمّد المدني كلّ قواعد الحياة الباطنيّة وبيّن وجه الفضل فيها، فما من خير إلاّ وهو منوط بهذه الآداب الرّفيعة.

وأمّا المحور الثّاني الّذي يتجلّى في هذا الشّرح فهو محور المقامات المتدرّجة. فالمعرفة بالله ثمرة وغاية ودونها مراحل ومدارجُ، ومقاماتٌ ومعارجُ لابدّ من اتّباعها والسّير فيها رويدا رويدا. ولم يكتف الشّيخ بردّ هذه المقامات إلى حضيرة النّصوص القرآنيّة والسنيّة فقط، بل استدلّ بها على ضرورة الانتظام في الطّريق واتّباع شيخ التّربيّة ليصاحبَ المريدَ في هذه المجالات الرّحبة ولا يدعه إلاّ وقد استوى بين يديْ ربّه عارفا. فالمقامات عـند الشّيخ محـمّد المدني كما عنـد غيـره من كـبار أهـل الله- معـارج الرّوح تسـري فـيها مـركبا مركـبًا حتّى يصـل السّائر إلى المراد ويزول عنه الحجاب.

4. سنة التأليف

يقول الشيخ المدني في آخر صفحة من مخطوط رسالته هذه : “وكان الفراغ منه مساء يوم الأربعاء، الرّابع والعشرين من ربيع الأول عام ثمانيّة وثلاثين وثلاثمائة” (الموافق لـ18 ديسمبر 1919). إلا أنّه يذكر غير ما مَرّة (خمس مرات على الأقل) في كتابه “برهان الذاكرين”، الذي فَرَغ من صيغته الأولى سنة 1923، مما يعني أنه فرغ من “الأصول الدينيّة” بعدَ هذا التاريخ، وأنّ ما ذُكرَ في النهاية كان ربما تاريخ الفراغ من الصيغة الأولى.

فهو يقول، على سبيل المثال، : “وقد نظمت سندنا في طريقتنا العلاويّة وضَمَمْتُه في رسالتنا المسماة برهان الذاكرين”، فهل هي جملة أضافها بعد المراجعة بسنواتٍ؟

والراجح أنّ هذا التأليف مرّ بمَرحلتين :

۞ الأولى وهي الشرح الكامل للقصيدة الألفية ولا شك في أنها كتبت كما هو مذكور في نِهاية الكتاب سنة 1919. بل إننا نظنّ، ولكن لا دليل على ذلك، أن التّشاور حول شرح هذه الأبيات حصل أثناء زيارة الشيخ العلاوي إلى تونس سنة 1918 وأنه دار الحديث بشأنها وتلقّى في ذلك الحين الإذنَ، فَشَرَع فيها بعد عودة أستاذه العلاوي، وكان ذلك في حدود سنة 1919.

۞ وأما المقدمة التي صدّر بها هذه الرسالة والتي تتضمن نبذة عن حياة الشيخ العلاوي فليس ثمة أدنى شكّ في أنه أضافها إضافة بعد أن دوّنهَا سنة 1923، تاريخ كتابة “برهان الذاكرين”، الذي يشير إليه ولعله لخّصها مما كَتَبَه هناكَ وأضافها إثرَ تبييض النسخة ومُراجعتها. وعلى كلٍّ، هما وَرَقَتان فَحسب أدمجتا لإكمال الرسالة كما أضاف جملة “وإني قد ذكرتُ جملةً كاملة في رسالتنا المسماة : برهان الذاكرين”، فلا شك أنها أضيفت بعد.

وفي الكتاب إشارة أخرى تؤكّد أنّ “هَديّة الإخوان”، التي صاغها الشيخ في 250 بيتًا، كُتبت قبل شَرح الرّسالة العلاويّة، لأنّه ضَمّن في قسم زيارة النبيء، عليه الصلاة والسلام، أبياتًا قد كان قد سَاقَها في مَتن هديّة الإخوان، واستَشهد بها، ممّا يرجح أنّ الشَّرحَ كتب خلال السنوات الأولى من عشرينيات القرن العشرين، أي بين سَنَتَيْ 1920 و1923 تقريبًا.

5. منهَج الشَّرح وأغراضه

كان الشيخ المدني يُدمجُ طَيَّ الشَّرح إشاراتٍ إلى وقائع حَصَلت مع ناظم القصيدة الألفية، الشَّيخ أحمد العلاوي وإلى ما كان يُذاكر به في مجالسه ويَتَعامل به مع الفقراء والمريدين، وهو ما يجعل تلك الإشارات توثيقًا تاريخيًّا نفيسًا لمَنهج أستاذه في التربية والإرشاد وطريقته في التعامل مع الزائرين في أوقات العافية والمَرض، وخاصّةً في القسم الثالث، قسم التصوف. فكان يدمج هذه الإشارات بقوله : “رَأينا من شَيْخِنا أو ” قال شَيخُنا…”
وأما غرض الكتاب الأصليّ فتفصيلُ مَا وَرَدَ مُجمَلاً في المَنظومَة العلاويّة الجامعة للضَّروري مِن عُلوم الدّين. ولمَّا كانت عبارة الشيخ العلاوي مُختَصَرَةً، سَعَى الشارحُ إلَى تَبيينها وتفصيلها حتّى تكونَ المعارفُ المنطويةُ عليهَا جَلِيَّةً مستقصاةً. ولم يقتصر َ الشيخ المدني على الشرح، بل تعدّاه إلى تأصيل المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلاَميِّة. فلم تكن الرسالةُ مُجَرَّدَ تفسيرٍ ظاهريٍّ لقواعدها، بل هي أشبهُ ببَيَانٍ وافٍ يسترجعُ أصولَ المَسَائِل ويُجَلِّيهَا ويستعرضُ فضائلَ الأعمال وينبّهُ عليها.

ولكنَّ غايةَ الغَايات التي يَصبو هذا الكتاب إلى تحقيقها هي التذكير بالقاعدة العامة في علم التوحيد وهي أنَّ أساس الإيمانِ باللهِ ومَعْرِفَتِه هو القلب، أي الذوق الباطنيّ أو الاستشعار الداخليّ الذي به تُدْرَكُ الصفاتُ وبها يؤمنُ ويُصَدَّق. فالحديث هنا عن صفات الله ليسَ حديثَ الفلاسفة والمتكلّمين، التائهين في مُشَاحَّات الاصطلاح ومنازعات البَرهَنَةِ، بل حديثَ الذائق المُسَلِّم إلى الله بالربوبية، المُقِرّ له بالوحدانية، العَارف بعجز العقول البشريَّة عن إدراك حقيقة الذات الأَحَديَّة، السَّاجِد أمامَ عَظَمَة الصفات وعليّ الأسماءِ. ونظريَّتُه هنَا أنَّ العقائدَ من الأمور الغيبيَّة التي يجب الإيمانُ بهَا تسليمًا، لأنَّ الاختبارَ واردٌ فيها، ثمَّ لأنَّ عقولَ البشر، وإن تطاولت منها الأفهام، لنْ تدركَ تلك الحقائق العَالية، فضلاً عن أن تقيمَ عليها الدليلَ العقليَّ أو أن تثبتها بأدواتٍ هي في طبيعتها قَاصِرَة.

ولمَّا كانت غاية هذا التفسير أيضا تَربيَّة الأرواح وتهذيب القلوب، أودَعَه الشيخ المدني الكثيرَ مِنَ الحكم والمأثورات حتّى يجتنيَ القارئ في ثَنَايَا الكلام لطائفَ المعاني وعَذبَ الحِكَم البالغة فيجمعَ بذلكَ أنوار المعرفة ورقائق الأفهامِ. وللعلم فإنَّ هذا الشرحَ قد احتوى على أبياتٍ للشيخ المدنيِّ لا توجدُ في الديوان ولم تُنشَرْ من قبل. فغالبًا مَا ينطلق الشارحُ من الأفكار الجزئيَّة ليَصلَ إلى التعريف بالقضايا الكلّيَّة والتعريفات العامَّة التي تَخُصُّ الدينَ الإسلاميَّ في كُلِّيَتِه. فَهوَ يَضع لنا هذا التعريفَ الجامعَ المانعَ حول مفهوم الإسلام : “وَفي الحقيقة، إنَّ جميعَ قواعدِ الإسلام نتيجةُ الاعترَافِ بالمَعبود، وثَمرَةُ الانقياد للمنفرد بالوجود، فَظَاهرُهَا إسْلاَمٌ وبَاطنها استسلام”.

خاتمة

“الأصول الدينيّة” مَرجعٌ كليّ، ضَمَّنَه الشيخ المدني كلَّ التّفاصيل والأحكام الفقهيّة والإيمانيّة والإحسانية الضروريّة لسَير المريد في طريق الله على بَصيرة. وفيها كلّ المعارف اللازمة التي تقارن أعمالَ الجوارح والقلوب وتتّصل بالأساسيّ من عُلوم الدّين حتّى لا يُعبَد الله ولا يُتَقَرّب إليه دون فهم ولا إدراك. ولَعَلّه أراد لكتابه هذا أن يكونَ مَرجع المُريدين في السّير إلى الله، يأوون إليه في كلّ ما يَحتاجون إليه، مع التعبير عنه بِلسانٍ واضحٍ وكلماتٍ مَيسورة ونَظْمٍ جليّ، بعيدًا عن تعقيدات الفقهاء وخلافيّاتهم. وحَريّ بهذا الشرح الشامل أن يسير بين الناس اليوم وأن يُعتَمَد على ما فيه من الأحكام في ثقةٍ بالنظر إلى ما كان عليه صاحب المَتن الشِّعْريّ (الشيخ العلاوي) وكاتِب الشَّرح المنثور من العِلم والصَّلاح.
فهذا الشرح الجامع حقيقٌ بالحِفْظ والاستقراء لأنَّ فيه حقائق التوحيد منظومةٌ جَلِيَّة، ومعالمَ الإسلام الثابتَة مشيّدةٌ على الهدى. وهو بيانٌ يذكّر المسلمينَ عامّةً أصولَ الدينِ وما به يَكتمل الإيمان، ويتنوّر القَلبُ والجَنانُ فيرتقي العارف في مقامات الإحْسَان.

ولئن كان شرح “الرّسالة العلاوية”، في الأصل، علامة مَبَرَّة عبَّر عنها مُريدٌ لشيخه، فإنّه صار بفضل الجهود التي بُذلت فيه مَصدرًا من مصادر الفكر الدينيّ، أو هذا ما يَجب أن يَرتقيَ إليه، لتضمّنه كلّ القواعد الإيمانيّة والشرعيّة والروحيّة التي على طالب العلمِ أن يَطّلع عليها زادًا يؤول إليه في مسائل العبادات والعقائد ومَقامات التزكية القلبية. وقد كانت عبارة الشيخ المدني في هذا الشرح ميسورةً سَهلةَ المأخذ، مُبينةً لما استَقَرّ عليه جمهور عُلماء السنَّة، طيلةَ العصور الماضية، مُحلاةً بذكر فوائد تغذّي القلب الظمآن لحقائق الإيمان وتقنع العقلَ المُتَشوّف للتماسك البرهانيّ.

ونَأمل من خلال هذه الطّبعة الجَديدة (الرقميّة والورقيّة) أن تُتيحَ لطلاّب العِلم، في العالَم الإسلامي قاطبةً، مَرجعًا مهمًّا، يُعتمد في معرفة المنهج المالكيّ- الأشعري- الجنيديّ، ويَستَند عليه في خوض ميادين الرّوح والقلب وأن تزوّدَهم بمدونة متكاملة تُغني عن الأسفار المُطوّلة وتَحُثّهُم على مزيد التعمّق في مسائل الأركان الثلاثة (الإسلام والإيمان والإحسان)، وهذه غاية الغايات ومَطمح جِياد العقول التي من أجلها صيغ هذا الشرح. ويحقّ لكل سالكٍ أن يقرأَ هذا الكتابَ بتمعُّنٍ وبصيرة فَيغنيه عن كبير المجلَّدَات ومُعقَّد الكتب والصفحات لأنّه احتوى على أمّهات هذا الفنّ بأسلوب عذب ومَنهج سلسٍ. وفي هذا الفن الرفيع تُغني اللمحة الخاطفة والإشارة الفائقة عن الإطناب.

أبَرَّ الشيخ المدني في هذا الشَّرح بشَيخِه، فَأحسَن المَبَرَّة وأوسَعَ الإرضاء.

ن المدني.
07-05-2023 مونتيني.

الشيخ سيدي محمد المدني يذاكر في تَربية الصغار على مَجالس الذكر

الشيخ سيدي محمد المدني يذاكر في تَربية الصغار على مَجالس الذكر

[ar]أحْضروا الصِّغَـارَ، في مَجالسِ الذِّكْر والتَّعليم [fr]Nom suprême
أحْضروا الصِّغَـارَ، في مَجالسِ الذِّكْر والتَّعليم

1. “أمَرَ الشّيخ (العلاوي) بإحضارهم، أي: أحْضروا الصِّغَـارَ، في مَجالسِ الذِّكْر والتَّعليم، لِيَتَعلّمُوا الآدابَ كُلَّهَا، كالحَياء لأنّه خير كلّه وهو من الإيمان، والمُروءَةَ، وهي من أفضل زينةِ الإنْسان، ويَتَعَلَّموا الكتابَ أي: القرآنَ العظيم.
ثمّ زاد الشّيخ تحريضًا على تعليم الصّغار، (…) فَأخبرَ أنَّ مَن أدَّبَ أولادَه في صِغَرهم، سَيَرى مِن بِرِّهم لَه حَالَةَ كِبَرهم. والعكس بالعكس.

2. ولمّا كان الإنسان قد يتوهّم أنّه كَبُر على التّعلم، وهو لا يكون إلاّ للصّغار، ويصعب على الكبير، أخَبَر (…) أنَّ الأمّةَ كلّها صِغَارٌ، في حَالِ تَعَلُّم الشّريعة المحمّديّة، على صاحبها أفضل الصّلاة وأزكى التّحيّة. فالواجب على المؤمنين استصغار أنفسهم واستحقار ذواتِهم في جانب شرع الله تعالى تعظيما وإجلالا لمنصبه ﴿ومن يعظّم حرمات الله فهو خير له عند ربّه﴾ (الحج: 30).

“الأصول الدينيّة”، قيد التحقيق.

المولد النبوي لابن عاشور

المولد النبوي لابن عاشور

Capture 1

1- الحَمدُ للهِ الذي أطْلعَ للنَّاسِ في ظُلمَة الضَّلالَةِ بدرَ الهُدى، وبلَّ بِغَيْثِ الرَّشادِ المُحَمَّدِيِّ ما لَحِقَ طينَةَ قُلوبِهم مِن صَدَا، ورَفعَ قَدْرَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وأعْلَى مَقامَه، وبعثَهُ رَحْمَةً للعالمين في الدُّنْيا وَعَرَصاتِ القِيامَة، وأمرَ أمَّتَه بِتَعْظِيمِهِ، فَنَبَّههم لِذلكَ بِالأمْرِ بالصَّلاةِ عَلَيْه ، والنَّهْيِ عَن رَفْعِ الصَّوتِ عِنْدَهُ، والتَّقديمِ بَيْنَ يَدَيْهِ .

2- اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَيْه صَلاةً تَكون بَيْنَ أيدينَا نُورًا، ونَزْدادُ بها نَضْرَةً وسُرورًا ، وعلى آلِهِ الذينَ خَصَّصْتَهُمْ بِمَزايَا الشَّرَف، وأطْلَعْتَهُمْ في سَماءِ الفَضائِلِ بُدورًا، ما يَشينُها كَلَف ، وارْضَ عَن أصْحابِهِ الذين أثْبَتَّ رِضاكَ عَنْهُمْ في كتابِكَ إعْلانًا ، الذين هَاجَروا ونَصَروا وآثَروا “يَبْتغونَ فْضْلاً مْنَ اللهِ ورِضْوانًا “، “والذين جاءوا مِن بَعْدِهم يَقولونَ: رَبَّنا اغْفِر لَنَا ولإخوانِنا” ، فَأنْعِمْ بِهِمْ إخْوانًا

[مُقَدِّمَة]

3- أمّا بَعد، فَهَذهِ سَحابَةٌ أظلَّتْ بِذكْرِ الفَضائِلِ المُحَمَّديَّة، فَبُثَّ رَشَاشُها، وزُجاجَةٌ مُلِئَتْ مِن عِطْرِ الأخلاق النَّبَويَّة، فيها لِنُفوسِ السَّامِعينَ انْتِعاشُها، لَوْ وُزِنَتْ بِأَغْلَى الدُّرَرِ واليَواقيتِ لَما غَلَت سُومًا على السَّامِعِ فَلَقال: هاتِ أو هَيْتَ ، وكَيفَ لا؟ وإنَّ مَــلْأَهَا لَمِن زُلالِ شَرَفِ الرَّسولِ، وانْبِثاقَ لَوامِعِ بَرْقِها يُشامُ منهُ خَيرُ غَيْثٍ هَطولٍ.
4- آثرْتُ فيها جَمْعَ لُمَعٍ كافيةٍ للَّذينَ تَعَلَّقَت قُلوبُهُمْ بِمَحَبَّتِهِ، وأخبارٍ غَيرِ واهيةِ الأساسِ مِن مُخْتار عُيونِ سِيرَتِهِ، إذْ كانَ قد أغْنى هَذه الأمَّةَ عَن التشبُّث بما لَيسَ بِمَحَجِّةِ الثُّبوتِ، ولَقَّنَها أنْ تَرْبَأَ عَنهَا بِإشارَةِ قَولِهِ: “وإنَّ أوهَنَ البُيوت …”،
5- فكذلكَ يَنْبَغي أن يَكونَ المسلمونَ فيما يُبَيِّتونَ من شُؤونِهِم وأوْضاعِهِم، وعَلَى ذلكَ الخُلُقِ عُلَماؤُهُمْ وأشياعُهُم، فإنَّ هذا الدِّينَ ثَرِيٌّ بما أمَدَّهُ اللهُ مِنْ صَحيحٍ كثيرٍ، عَن أنْ يُلَفَّقَ لَه شاعِبُ كلِّ مُنْثَلمٍ أو كَسيرٍ، فلا يَحقُّ لِحَمَلَتِهِ أن يَشوبُوه بما يُكَدِّرُ منه صَفْوَ صِفاتِهِ، وأنْ يَنْسَوْا ما خُصَّتْ به هذه الأمَّةُ من صِحَّةِ بُلوغ الدِّينِ ورِواياتِهِ.
6- فَعلَى ذلكَ النّيرِ قَد سَدَيْتُ مُحْكَمَ هَذا النَّسيج، وكذلك تَفَرَّعَت أفْنانُ هَذه الشَّجَرة الطيِّبَة على ما انفتقَ عنه ذلكَ الوَشيجُ .
7- دَعانِي إلَيهِ الاتِّساءُ بِأفاضِل الأمَّة، الذين ألْهَمَهُمُ اللهُ صَرفَ الهِمَّة، إلى العِناية بِتَعظيم اليَومِ الذي يُوافقُ من كلِّ عامٍ، يومَ ميلادِ مُحَمَّدٍّ، رَسولِهِ، عَلَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ، إذ كانوا قدْ عَدُّوه عِيدًا، وَرَمَوا بِرَشيق نَبْل عُقولِهِم بذلكَ مَرمًى بَعيدا، عَلِمناهُ من قَوْلِهِ تَعالى، في التَنْويهِ بِشهرِ رَمَضانَ: “شَهرُ رَمَضانَ الذي أنْزِلَ فيهِ القُرآنُ “.
8- فَأيُّ يَومٍ أسعدُ من يَومٍ أظهرَ اللهُ فيهِ للعالَمِ مَولودًا كانَ المُنقذَ من الضَّلالةِ، أخرَجَ به النَّاسَ مِن ظُلماتِ الشِّرْكِ ومَناقِصِ الجَهالةِ. وإذا كَانَتِ الأعيادُ الثَّابِتَةُ في الدِّينِ قد جاءَتْ على مُناسَبَةِ الفَراغ مِن عِبادَاتٍ مَشروعَةٍ، فَذِكْرَى الواسِطَةِ العُظمى في تَبليغ ذلكَ يَحقُّ أنْ تَكونَ مُشَيَّدَةً مَرْفوعَةً.
9- وأوَّلُ مَنْ عَلِمْتُه صَرَفَ همَّتَهُ إلَى الاحْتِفال باليَومِ المُوافِق يومَ مَولِدِ الرَّسول، صَلَّى الله عليه وسلَّم، فيمَا حَكاهُ ابنُ مَرْزوقٍ هو القاضي أحْمدُ بنُ مُحَمَّدٍ العَزْفيّ السَّبْتِي المالكيُّ في أواسط القَرن السَّادِسِ. وتَبِعَهُ عَلَيْه ابنُهُ القاضي أبو القاسِمِ مُحَمَّد ، من عُلمَاءِ القَرن السادِسِ، وأوائِلِ السَّابعِ. واسْتَحسنَه جمهورُ مَشْيَخَةِ المَغْرِب، وَوَصفوهُ: بالمَسْلَكِ الحَسَنِ .
10- قالَ أبو القاسم البُرْزُلي : “مِيلادُ النَّبي، صلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، مَوْسِمٌ يُعْتَنَى به في الحَواضِرِ تَعظيمًا لَهُ”.
11- وكانَ شأنُ أهلِ الخَيرِ إحياءَ لَيلَةِ المَولدِ بالصَّلاةِ على النَّبِي، ومَعونَة آلِهِ، ومُساهَمَتَهِم ، والإكْثارَ من الصَّدقَاتِ وأعْمالِ البِرِّ، وإغاثةَ المَلهوفِ، مع ما تَسْتَجلبُهُ المَسرَّةُ مِن مُباحِ اللَّهوِ المُرَخَّصِ في مِثْلِهِ بنَصِّ السنَّةِ .
12- وشاعَ ذلك في بلادِ المَغْربِ والأندلُسِ. ولمَّا رَحَلَ العَلاَّمَةُ أبو الخَطَّابِ عُمرُ، المَعروفُ بابنِ دِحيَةَ البَلَنْسِيِّ، الأنْدَلُسِيِّ، المالِكِيِّ ، رِحْلَتَهُ الشَّهيرةَ إلى المَشرِقِ، أوَّلَ القَرْنِ السَّابِعِ، واتَّصلَ بالمَلكِ الجَليل، مُظَفَّر الدِّين، أبي سَعيد كَوْكَبُوري ، بنِ زَيدِ الدين، كوجَك عَلِيٍّ، صاحِبِ إرْبِلَ ، حَسَّنَ الشيخُ للمَلِكِ التسنُّنَ بهذا السَّنَنِ، فَرَغِبَت هِمَّتهُ في الاتِّسامِ بمَيْسَمِ أفاضِلِ الزَّمَن، لذلك أقامَ في سَنَةِ ستٍّ وستمائةٍ حفلاً عَظيمًا، وأنْشَأَ لَهُ ابنُ دَحْيَةَ كتابًا سمَّاهُ: التَّنويرُ بِمَوْلِدِ السِّراجِ المُنير ، لِيُقْرَأَ في ذلكَ اليَومِ، وجَعَلَ يُعيدُ قراءَتَهُ كُلَّ عامٍ، تارَةً في اليَوم الثاني، وتارةً في اليَومِ الثانيَ عَشَرَ من رَبيعٍ الأوَّلَ. فَهو أوَّلُ المُلوكِ نَظَمَ هذَا الاحتفالَ في سِلْكِ رُسُومِ دَولَتِهِ.
13- وأوَّلُ مَنْ سَلَكَ هَذَا المَسلَكَ من مُلوكِ المَغْرِبِ، السُّلْطانُ أبو عِنانٍ المَرينيِّ . ونَحا ذلكَ النَّحوَ السلطانُ الجليلُ أبو فارسٍ عبدُ العَزيز بنُ أحمدَ الحَفصيُّ ، سُلْطانُ تونسَ، وعَيَّنَ لذلكَ لَيلةَ اثنَتَيْ عَشْرَةَ من ربيعٍ الأوَّلَ. فَكَمْ أغْدقَ في تلكَ الليالي من خَيراتٍ، وأجْرَى مِنْ عَوائِدَ وصِلاتٍ .
14- ثمّ لَحِقَت بهذهِ الإيَالَةِ شَدائدُ ومِحَنٌ، وانْطَوى مِن بَهْجَة الدَّولَةِ الحَفْصِيَّةِ ذَلكَ البِسَاطُ الحَسنُ، فَلَمْ يَبْقَ مِن تلكَ الرُّسوم، إلاَّ مَا يَنْبَعِثُ عَنْ أرْيَحيَّة أهْلِ الطَّرِيقِ، أوْ أصْحابِ العُلوم. حتَّى قَيَّضَ اللهُ لِتَجديدِ ما رَثَّ مِنْها، وتَلْقِيم ما ذَوَى مِن شَجَرتِها وتَفَرَّعَ مِنها، الأميرَ السَّاميَ الهِمَّةِ، الرَّامِي إلَى مَعالِي الأُمورِ عَن قَوْسٍ أرَاشَ سَهْمَهُ ، الفائزَ بِتَعْظيمِ قَدرِ المُصْطَفى، المُشيرَ الأوَّلَ أحْمَد بَاشا، ابْن المُصطَفى ، نَوَّرَ اللهُ مَقَرَّ رُوحِه بِنورٍ ما لَهُ انْطِفا .
15- فَأمَرَ بإقامَة حَفَلاتٍ لِلَيلَةِ المَوْلد ويَومِهِ، بِحاضِرَة تونسَ، ومَدينَةِ القَيرَوان، وأجْرَى لذلكَ النَّفَقاتِ، ما فيهِ وفاءٌ بالإحْسان، وأمَرَ بإطْلاقِ المَدافِعِ الحَرْبِيّة من القِلاعِ، بِنِيَّةِ التَّسليم عَلى أفْضَلِ الرُّسلِ، عَلَى صفةِ أعْظَمِ تَحيَّةٍ للملوكِ في اصْطِلاح الدُّولِ.
16- وكَتَبَ له العَلاَّمةُ، شيخُ الإسْلامِ، أبو إسحاقٍ إبراهيمُ الرِّياحيُّ ، في ذِكْرِ المَولدِ مُختَصَرًا مِن مَولِدِ المُقَدَّسِ الشَّيخِ مُصطَفَى البَكْريِّ المِصْرِيِّ .
17- وَجاءَ مِن بَعدِهِ الأميرُ الجليلُ، الخائضُ لِغَمَراتِ العُلا بِعَزْمٍ صارمٍ صقيلٍ، والذي كان لِأعمالِ ابنِ عمَّهِ خَيرَ ناسقٍ، المُشيرُ الثالثُ، مُحمَّدٌ الصَّادق .
18- فَأَمَرَ بِتَعميمِ الاحتفال بالمَولِدِ في جَميع مُدُنِ الإيَالَةِ ، وأجْرَى لَها مِن مالِ الدَّولةِ عَطايَا فيها كِفايَةٌ وفَضالَة، فَهِيَ إلى اليَوم صَدَقَةٌ جاريَةٌ مِن مَنْبَعِ عَيْنِ الحُكومَة، مُخَلِّدَةً بها مآثرَ في المَحاسِنِ لَه مَعلومَةً، وتَرَكَهَا سنَّةً باقيةً فيمَن بَعدَهُ، فَتَلاحَقوا في الوَفَاءِ بِحَقِّهَا، وشَدُّوا عَقْدَهُ .
19- وكَمْ مِن لُطْفٍ خَفِيٍّ حَفَّ بِهَذِه البلادِ، لَعَلَّه مِن بَركاتِ هذا الاعْتِناء. قَال ابنُ الجَوزيّ :
“مِمَّا جُرِّبَ مِن بَرَكَةِ رَسول اللهِ، صَلَّى الله عليه وسلَّمَ، أنَّ الاحتفالَ يَومَ مَولدِهِ أمانٌ في ذلكَ العامِ، وبُشْرَى لِمَن فَعَلَهُ بِنَيْلِ المَرامِ” .

مقدمة لكتاب الاعتقاد معينة لقارئها على المراد

مقدمة لكتاب الاعتقاد معينة لقارئها على المراد

Cheikh Muhammad al-Madani

وَحُكْمُنا العَقْلـي قَضيَّةُ بـلا * وَقْفِ على عادةٍ أو وَضْعِِ ِ جَـــــــــــــــلاَ

أقسامُ مُقْتضَاهُ بالحَصْرِ تُـمَازْ * وَهْيَ الوُجوبُ الاسْتِحالَةُ الجَوازْ

فواجب لا يَقْبَلُ النَّفْيَ بِحالْ  * وما أبىَ الثُّبوتَ عَقْلاَ َ المُحَـالْ

وجائزاَ َ ما قبَلَ الأَمْرَيْنِ سِم * للضَّرُوري والنَّظري كُلُّ قُسِم

أوّلُ واجِبِ ِ على مَنْ كُلِّفـا * مُمكَّناِ ِ منْ نَظَـرِ أنْ يَعْـرِفَـا

اللّهَ والرُّسُـلَ بالصِّفـاتِ * ممِـَّا عَليــه نَصَبَ الآيـاتِ

وكُلُّ تّكْليفٍ بِشَرطِ العقلِ مَعَ * البُلــوغِ بِـدَمِ ِ أو حَمْـلِ

أو بمَنِيِّ أوْ بإِنْباتِ الشَّعْــرِ * أوْ بِثَمان عّشْرَةِ ِ حَوْلاَ َ ظَهَـرْ

شَرْح حَديث حَنظلَة: ساعَةٌ وساعَة

شَرْح حَديث حَنظلَة: ساعَةٌ وساعَة

[ar]الشيخ محمد المدني[fr]Cheikh-al-Madani
[ar]الشيخ محمد المدني[fr]Cheikh-al-Madani

نَتشرَّف بتقديم رسالة اللحظة المُرْسَلَة على حديث حَنظَلَةَ، رَضيَ الله عنه، وفي هذا الكتاب الذي ألَّفَه الشيخ سيدي محمد المدني، قَدَّسَ الله روحَه، يظهَر علمه الجمّ في مَجال الحديث روايَةً وشرحًا ودرايةً. كما تظهر رقة أفهامه اللطيفة حين يتطرق إلى شرح هذا الحديث الشريف حسب المنهج الإشاريّ في التأويل.

كتاب اللحظة المرسلة
على حَديث حَنْظَلَة

تأليف الشيخ سيِّدي محمد المَدَنيّ،
رضي الله عنه

1- الحَمدُ للهِ العظيم، الذي وَسعت رحمته الأشياءَ، والصَّلاة والسلام على مَن هو بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ، وعلى آله وأصحابِه الطّاهرين الأتقياء.

2- أمَّا بَعدُ، فمن كاتِبه الفقيرُ الفاني، العبدُ الضعيف المشهور بالمَداني، إلى الصَّفوة الكريم، ذي القلب السليم، الخلِّ الوَدود، الذي تَخللت خُلَّتُه ضَميري، العلامة الأفضل الشيخ سيدي محمد السخيري المُنستيري ، ثَبَّتَنَا الله وإيَّاكم على الصِّراط المستقيم، وسقانا سلسبيلاً من فَيضِه العظيم، وعَلَيكم أتمُّ سلامٍ وأكمله وأجمل احترامٍ وأفْضَلُه.

3- هذا أيّها الأفضل وإنِّي قد كتبت ما اقترحتموه على هذا العبد لحسن ظنِّكم فيه من شرح حديث حنظلَة الأسيدي ، رضيَ الله عنه، الذي نَصّه بحروفه كما رواه الإمامُ البَغَويٌّ في كتابه “مَصابيح السنّة“: عَن حنظلَة الأسيدي أنَّه قال: انطلقتُ أنا وأبو بَكرٍ حتَّى دَخلنَا على رَسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلتُ: نَافقَ حنظلَة. قال رسول الله، صلَّى الله عليه وسلم،: وما ذاك؟ قلتُ: نَكون عندكَ، تُذَكِّرنا بالنَّار والجنّة كأنَّا رأيَ عَينٍ، فإذا خَرجنا عافسنا الأزواجُ والأولاد والضيعات، نَسينا كثيرا. فقال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم: والذي نَفسي بيده، لَو تَدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لَصافَحتكم الملائكةُ على فُرُشِكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلَة ساعَة وساعة ثلاثَ مرَّاتٍ“.

4- ورَواهُ وليُّ اللهِ تَعالى المُحدِّثُ الحُجَّةُ سيدي أحمد الدهلوي في كتابه المُسَمَّى: حُجَّةُ الله البالغةُ، بتفصيلٍ زائدٍ على ما رواه البَغويُّ ونَصُّه بحرفه: عَن حنظلةَ بن الرَّبيع الأسيدي قال: لَقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نَافقَ حَنظلة. قال: سبحان الله ما تقول؟ قلت: نَكون عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار، كنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. قال أبو بكر: فَواللهِ، إنَّا لَنَلقَى مثلَ هذا، فانطلقتُ أنَا وأبو بكرٍ حَتَّى دخلنا على سول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: نَافَقَ حَنظلة يا سول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاكَ؟ قلتُ: يا رسول الله نكون عندك تُذَكِّرنَا بالنَّار والجنّة كأنَّا رأيَ عَينٍ، فإذا خَرَجنا عَافَسَنا الأزواج والأولاد والضيعاتُ، نَسينَا كثيرًا. فَقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: والذي نَفسي بِيَده لَو تَدومون على ما تكونون عندي وفي الذِّكْر، لَصافَحتكم المَلائكةُ عَلى فُرُشُكم وفي طُرُقِكُم، ولكنْ يا حَنظلَة ساعةٌ وساعَةٌ، ثلاثَ مَرَّاتٍ.

5- وقد اقتصرت في الشرح على الرواية الأولى التي في مَصابيح السنَّة وشَرَحْتهُ حَسبما اقتضاه فَهمي الكليلُ وعلمي القليل، فإنَّ قَرَّت به عينكم فتلك مِنّةُ الجَميل الجليل، وإلاّ فَعلى القاتل دِية القَتيل، والله حَسبي وهو نعم الوكيل وسَمَّيتُه: “اللحظةُ المُرسَلَة عَلى حَديث حَنظلَةَ“.

6- أقول: مُستعينا بالله إنَّ حَنظلَةَ، رَضيَ الله عنه، قَد تَرجمه الإمامُ قاضي القضاة شهاب الدين الكناني العسقلاني المعروف بابن حَجرَ، في كتابه: “الإصابة في تَمييز الصَّحابَة”. فقال: حَنظلة بن الربيع بن صيفي بن رياح بن الحارث بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جَروة بن أسَيْد بن عمر عمرو بن تميم أبو رَبعةَ ويقال له: حَنظلَة الكاتب وهو ابن أخي أكثم بن صيفيّ، رَوى عن النبي صلى الله عليه وسلم وكَتَبَ له وأرسله إلى أهل الطائف فيما ذكر ابن اسحاق، وشهدَ القادسية ونَزلَ الكوفة وتخلَّفَ عن علي يوم الجَمل، ونَزل قرقيسياء حتى ماتَ في خلافة معاويةَ. ويقال : إنَّ الجنَّ لما مات رَثتَه وفي موته تَقول امرأةٌ مِن أبياتٍ :

إنَّ سَوادَ العَين أودى به * حُزني عَلى حَنظلةَ الكاتب

7. وفِي الترمذيّ من طريق أبي عثمان النهدي عن حنظلةَ: “وكان من كُتَّابِ النَّبي، صلى الله عليه وسلم. رَوى عنه أبو عثمان النهديُّ وابن أخيه المرقع بن صيفي بن رياح بن الربيع وغيرهما. اه.” والأسيدي بالتشديد نسبة إلى جدّه أُسَيْد بن عمرو بن تميم.

8. وأما شرح الحديث فقول حنظلةَ، رضيَ الله عنه: ( فُقلتُ: نَافَقَ حنظلةُ) لَم يرد به إسنادُ النِّفاق إليه حقيقةً، إذ النِّفاق إخفَاء الكفر وإظْهار الإيمان. وحاشا حنظلةَ أنْ يَنزلَ إلى هذا الحَضيض. إنَّما مَقصده بهاته الجملة التشكّي إلى النبي، صلَّى الله عليه وسلم، من حَاله وما يُصيبُهُ وغَيرَهُ من النِّسيان، وقلة الحضور عند مفارقة نور الوجُود، صلى الله عليه وسلم ومعافسة القواطع الدنيوية من الأزواج والأولاد والأموال. فَعَبَّر عن ذلك بالنفاق وأسْنده لنفسه لأنَّ النسيانَ والغَفلة من لوازم النفاق والكُفران.

9. وتَمام الحضور مع الله في أيِّ حَالٍ من الأحوال من لَوازم الدِّين والانقياد لله عزَّ وجلَّ. فَمن انقادَ لله تعالى بظاهره وأطَاعه بِجوارحه وعَمل بما أمره واجتَنَبَ ما نَهاه عَنه فَهو مُسلمٌ. ومَن انقادَ لله بِقَلبِه واطمَأنَّ للإيمان به، وبما جاءَ به رسولُه، صلَّى الله عليه وسلَّم، فَهو مؤمنٌ. ومَن خَضَع لِمعبوده بِسرّه وحَضَرَ مَعه بباطِنِه، وكانَ حُضورُه عامًّا في جميع أحواله من عبادة وغَيرها من جميع الحرَكات والسَّكنات فهو الـمُحْسن. فإنَّ الإحسانَ هو الحضور مع الله تعالَى في جَميع الأحوال وتَخصيص العبادة في الحديث المشهور الذي آخره: “أن تَعبدَ الله كأنَّكَ تَراه“. لأنَّها أشرَف أحوال العَبد. فالتحريض على الحضور فيها أَولى بأنْ يُعتَنَى به. فالدين هو انقياد العبد لِمَعبوده بظاهره المسمى بالإسلام وباطنه المسمى بالإيمان وسِرّه الـمُسمَّى بالإحسان. والنِّفاقُ عَدم الانقِياد للهِ بِشَيءٍ من ذلك. وإنْ أظهَرَ الانقيادَ بِجوارحه فإنَّ ذلكَ انقيادٌ للخَلق لا للخالِق فَهو لَيسَ بالانقِياد لله.

10. فإذَا أخَذَ الـمُتَديِّن في الغفلة وعَدم الانقياد للهِ، عَزَّ وجلَّ، بِسرّهِ بِسَبَب عدم حضوره مع الله في جَميع أحواله فقد أخَذَ في أسباب النِّفاق. لذلك أسْنَدَ حَنظلَة، رَضيَ الله عنه، النِّفاقَ لنفسه فَهو مَجازٌ مُرسَلٌ من إطلاق الـمُسَبِّب الذي هو النِّفاق وإرادَة السَّبَب الذي هو الغَفلة وعدم الحضور والانقياد لله بالسرّ سببٌ في النفاق، نعوذ بالله تعالى.

11. ولَيسَ مَقصَدُ حنظلَةَ، رَضيَ الله، عنه إخبارُ رَسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه اتَّصَفَ بالنِّفاق حقيقَةً، إنَّما مَقْصَدُه التَشَكِّي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإظْهار التَّحزُّن والتَّحَسّر على ما يطرأ على قلبه من الغَفلة وعَدم الحضور، كما قلناهُ. وهوَ، رَضي الله عنه، قد اسْتَنهضَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم، لإنقاذه مما حلَّ به وأصَابَه بإسناده النفاق لنفسه خوفَ أن يَسريَ داءُ الغفلة إلى بقيَّةِ دينه، كَما يَسري الدَّاء من أحَد الأعضاء إلى سائر الجسد.

12. وهذا شأن المريض الحَريص على الشِّفاء في تَهويل الدَّاء ببالِغ وصفٍ لِطَبيبه. كَيفَ لا وهوَ، صلَّى الله عَليه وسلم، طَبيب القُلوب والأرواح التي هي أعزّ وأغْلى وأرْفَع وأعْلى من أنْ يُشتَغَلَ بغيرها. فَهو الحقيقُ بالتَّشَكِّي لَه. فانْ كانَ مَريضُ الجسد يَسعى لِشفائه بكلِّ مَا في وُسعه فَأولَى عليلُ الرُّوح مَريض القلب يَسعى بما عنده لنفعه.

13. وكثيرًا ما كان أستاذُنا ومَولانَا أحمد العلاوي المستغانمي، رَضيَ الله عنه، يَتَمَثَّل بهذين البيتين :

يا خادمَ الجْسمِ كَمْ تَشقَى لِخِدمَتِه * وتَطلبُ الربحَ ممَّا فيه خُسرانُ
عَليكَ بالرّوحِ فَاستَكمل فَضائِلَهَا * فَأنتَ بالرُّوح لا بِالجِسْم إنْسَان

14. ثمَّ أقولُ: إنَّ هذَا الحديثَ وغَيرَه من الأحاديث المُشتَملة على تَشَكِّي الصحابة، رِضوانُ الله عليهم، إلَى رَسول الله صلى الله عليه وسلم، مِمَّا يَطرأ عَليه من الغَفلة ومَرض القُلوب هو مُستَنَدُ القَوم، رضوان الله عليهم، فِي تَشكِّي مُريديهم لِمَشائخهم مِمَّا يُصيبهم من التَّكاسل في العَمل والانْحراف عن جادة الاستِقامَة لِكَيْ يَكونَ الأستاذُ عالِمًا بأمراض مُريديه، فَيَتَسَنَّى له مداواتُهم بأقرب الطرق إلَيهم، وأسهلها عليهم، فانَّ الطبيبَ لا يأخذ في المداواة إلا بعدَ تَشخيص الداء من المريض. فهذا المعنى واحدٌ في مَرَض الأشباح والأرواح.

15. ولا يَنبغي للمريد أنْ يُخفيَ شيئًا عن أستاذه وإلا زاد طينُهُ بَلّةً ومَرضه علّة، ولذلكَ عَدُّوا إخفاءَ الُمريد شيئًا عن شيخه من عدم الصدق. وفي هذا المعنى يقول ابن البَنَّا السَّرقسطي في المباحث الأصلية:

16. فَليسَ عندَ القَوم باللَّبيب * مَن لَم يَصف شَكواه للطَّبيب

17. وحِكايتهم، رضي الله عنهم، في إلقائهم لمشائخهم كلَّ مَا يَرد عليهم كثيرةٌ، وما ذلكَ إلاّ لإصلاح قلوبِهم رَضي الله عنهم.

18. والذي يَظهر من حنظلة، رَضيَ الله عنه، حَسبما يلوح من هذا الحديث أنَّ حضورَه كانَ كثيرًا مَع الجنّة ونعيمها والنار وجحيمها راجيًا للأولى، فارًّا من الثانية لأنَّه لَمَّا سأله النبي، صلى الله عليه وسلَّم، بقوله: “وما ذاكَ” أجابه بقوله: قلتُ نكون عندكَ تُذَكِّرنا بالنَّار والجنة كأنّا رأيَ عَينٍ” أي إنَّنا نكون عندك في مَجلسك تذكرنا بالجنة ونَعيمها وتأمرنا بما تُنالُ به من العمل الصالح كلّه من فرائضَ ونوافلَ وتُذَكِّرنا بالنَّار وجَحيمها وتَنهانا عمَّا يَدخلها من المخالفات والرذائل، حتى إنَّنا من شدّة حضورنا مع الجنة والنَّار كأنَّا نَراهما رأيَ عَينٍ.

19. وهكَذا كان رسول الله، صلَّى الله عليه وسلم، يُذَكِّر أصحابه في هذا المعنى وغيره ويؤثر فِيهم تأثيرًا بليغًا تَقتضيه مَرتَبَة الرِّسالة حتى إنَّهم يَغيبون عن هاته الدنيا الفانية وعالَمها الخالي ويَشخَصون مع العالم الأبديّ رغبَةً في دار النعيم ورهبةً من دار الجحيم.

20. ومن ذلكَ أنَّه ذَكَّرهم مرّة ووعظهم مَوعظة بليغَةً حتى أبكاهم فَعزَمَ عَشرة منهم على سُكنَى الجبال، ولَبس المسوح وتَحريم جَميع الطيِّبات من المأكل والملبس فَنَهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ونَزلَ في حَقِّهم قولُه تعالى: “يا أيّها الذينَ آمَنوا لا تُحَرِّموا طَيِّبات ما أحَلَّ الله لَكم “، ومِن هؤلاء العشرة أبو بَكرٍ وعليٍّ وعثمانُ بن مَضعون وحكايتهم طويلةٌ. وما فعلوا ذلك إلاَّ لأَنَّهم عَزفت نفوسهم عن هاته الدنيا، دارِ الفَناء والغرور، فاستَوى ذَهبُها ومَدَرها بِسَبب مَوعظَةِ وتَذكير رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. وقد سألنا بعضهم عن هاته الآية فجعلنا عليها شرحا مُستَقلاًّ.

21. إذا علمتَ هذا كلَّه أقول إنَّ حنظلةَ، رضي الله عنه، كان مقامُه الراسخ فيه إنَّما هو الحضورُ مع الله. وحضورُه مَع الجنَّة والنَّار على ما في هذا الحديث اقتضاه الحال في ذلك الزمان وهو الحال الأفضلُ والمقام الأكملُ والله أعلم بما وراءَ ذلكَ.

22. وفَضيلةُ الصُّحبَة له على كلّ حالٍ، فإنَّه من أفضَل القُرون، رضيَ الله عنه وعن جميع الأصحاب الذين بَذلوا أنفسَهم لله، يَبتغونَ فضلاً مِن الله.

23. وقوله: “فإذَا خَرجنَا مِن عندكَ عَافَسَنَا الأزْواجُ والأولادُ والضَّيعاتُ نَسينَا كثيرًا“. “الضَّيعاتُ” جَمع ضيعةٍ، ولَها في اللغة معانٍ منها الأرض المُغِلَّة، ومنها حِرفَةُ الرَّجل وصِناعتُه، يُقال: كَانت ضَيعَةُ العرب سياسة الإبل، فَيحتَملُ أنَّ حنظلةَ كَانت له أرضٌ مُغِلَّة يُخالطها للتمعُّش، ويَحتمل أن كانَت لَه صناعَةٌ وحِرفَةٌ، ويَحتملهما معًا.

24. والمَعنى: فَإذا خرجنا من عندكَ عَلى مَا نحن عليه من تمام الحُضور خَالَطَنا الأزواجُ والأولادُ والضَّيعاتُ نَسينا كثيرًا ممَّا ذَكَّرتَنا به، وغَفَلنا عمَّا كُنَّا عَلَيه عندكَ مِن تَمامِ الحُضورِ.

25. ولَم يَنفِ أصلَ الحُضور فإنَّ الأصحابَ كلَّهم مَقامُهم أجلُّ وأعلَى من ذلكَ، إنَّما أثبَتَ النِّسيانَ كثيرًا فَقط، وبالضرورة أنَّ مَن جالَسَ رسولَ اللهِ، صلَّى الله عليه وسلم، وتمتع بالنَّظَر في وجْهِهِ الشَّريف وسَمعَ كلامَه المُوحى به إلَيه فإنَّه لا يَنطق عن الهَوى، كانَ في غاية الحُضور مَع ما تَقتضيه المَوعظة والمذاكرةُ.

26. فإنْ كانَت في التَّوحيد كانَ حضورُه مَعه وإنْ كانَت في الثَّواب والعقاب فكذلك، وهكَذا يَحصلُ للصَّحابَة، عَلَيهم تمامُ الرِّضا والرِّضوانُ، مَا يَحصل لحنظلةَ، رَضي الله عنه، من تَمام الحضور عندَ المُثولِ بَينَ يَدَيْه، صلَّى الله عليه وسلَّم، ومُشاهَدَة ذَاتِه الشَّريفة والغفلةُ عندَ مُفارَقَتِه.

27. ومِن ذلكَ ما رَواه التِّرمذيُّ عَن أنسٍ أنَّه قالَ: “ما نَفضنَا أيْدينَا منَ التُّرَابِ وأنَا لَفي دَفنه حتَّى أنْكَرنا قلوبَنَا“، ذَكرَه في الأنوار المُحمديّة.

28. هذا المَعنى كثيرًا ما يَحصلُ للمُريدين مَع أشياخِهِم فَتَراهم في غاية اللّين ورقَّة القَلب وصفاءِ الباطِن والمَيْلِ إلَى الطَّاعة وقوّةِ الحضور مع اللهِ إذا كانوا حاضرينَ بَينَ يَديْ أشياخهم، فإنَّ المَشائخَ وَرَثَةُ الرُّسُلِ، عَليهِم الصّلاة والسلامُ، في أقْوالِهِم وأفعالهم وأحوالِهم والحديث يشير إلى ذلكَ: “العُلَماءُ وَرَثَةُ الأنْبياءِ“.

29. ويَشهدُ لهذا المَعنَى قولُهُ صلى الله عليه وسلم، لبعض أصحابه لَمَّا سألوه: مَن نجالسُ يا رسول الله؟ قال: “جالِسوا مَن تُذَكِّرُكم بالله رؤيتُهُ، ويَزيدُ في عِلمِكُمْ مَنْطِقُهُ ويُرَغِّبُكُم في الآخِرَةِ عَمَلُه”.

30. فَقد أمَرَ، صَلَّى الله عليه وسلَّم، بِمُجالَسَة مَن رُؤيتُه تَذَكِّرُ بالله. فَعُلِمَ مِنه أنَّ مِن الرِّجال مَنْ مُجَرَّدُ رُؤيتِهِ تُذَكِّرُ بالله تعالى وتُحَصِّلُ الحضورَ لِمَنْ جَالَسَه. وإذا لَم تَكن هاتِهِ الخَصلَة في مَشائِخِ التَّرْبِيَة والتَّرقية فَفي مَنْ تَكون؟ وَيُؤَيِّدُ هَذا المَعنى قَولُه، صَلَّى الله عليه وسلَّم:”أفْضَلُكُم مَن إذا رُئيَ ذُكِرَ اللهُ لِرُؤْيَتِهِ “.

31. فَالحاصِل أنَّ الجلوسَ بَينَ يَدَيْهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّم، تَحَفُّه أنوارُ وتكتَنِفُه أسْرارٌ تكسبُ الإنسانَ تَمامَ الحضورِ وعَدم النسيانِ والغَفلَةِ، ومَن فَارَقهُ ولَو لَم يخالطْ شيئًا منَ القَواطِع الدُّنيويّة نَقُصَ حضورُه لفِقدانِ النَّظَرِ لِوَجْهِهِ الشَّريفِ وسَماعِ كَلامِهِ المُوحَى بِه إلَيْهِ الذي لَه تَأثيرٌ وسلطانٌ عَلى الضَّميرِ، فَإذَا زَادَ على ذلك مخالطةُ أيِّ شيءٍ من الأشياء الفانِية زادَ حضورُهُ نَقصًا وغفلةً وخصوصًا مُخالَطة زينةِ الحياة الدنيا ومتاعِها كالزَّوجات والبَنين والأمْوالِ فإنَّه يَزدادُ نِسيَانُه كثيرًا لأنَّ هاتِه الأشياء، أعني: الزوجات والأولاد والأموال، فِتْنَةٌ للإنسان تَفتِنُه في دِينِهِ لِتَعَلُّق قَلبه بها بشهادة القرآن، قال فِي الأزواج والأولاد: “يا أيها اللَّذينَ آمَنوا إنَّ مِن أزْواجِكُم وأولادِكم عَدُوًّا لَكم فاحذَروهُم“.

32. وقَد اختُلفَ في سَبب نُزولها على رِوايَتَيْن: الأولى: عَن ابنِ عَبَّاسٍ قال: هؤلاءِ رجالٌ أسلَمُوا مِن أهْلِ مَكَّةَ وأرادُوا أنْ يَأتوا النَّبيءَ، صلَّى الله عليه وسلم، فأبَى أزواجُهُمْ وأولادُهُمْ أنْ يَدَعُوهُم أنْ يَأتُوا النَّبي، صلَّى الله عليه وسلم، فَنَزَلت هاته الآيةُ فلَمَّا أتَوه رأوا الناسَ قَد فَقِهوا في الدِّينِ فَهَمُّوا أنْ يُعاقِبوهُم أيْ بِعَدَم النَّفَقة عَليهم لأنَّهم ثَبَّطوهُم عَن الهِجْرَة فَنَزل قوله تعالى: “وإن تَعفُوا وتَصفحوا وتَغفرُوا فإنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ” . وقال عطاء بن يَسارٍ نَزلَت في عوفٍ بنِ مالكٍ الأشْجَعيّ وكان ذا أهلٍ وولدٍ فإذا أرادَ أن يَغزوَ بَكوْا عَلَيهِ ورافَقوه وقالوا: إلَى مَن تَدَعُنا فَيَرِقُّ عَليهم فَيُقيمُ فَنَزَلَتْ. نَقَلَ هاتَيْن الرِّوايَتَيْن الخازنُ في تَفسيرهِ.

33. وأنتَ تَرى عَلى كِلَيْهِما عدَاوَة بَعضِ الأزواج والأولاد وصَدِّهِم عَن القيام بما هو مطلوبٌ مَع سَيِّدِ الوُجودِ، صلَّى الله عليه وسلَّم، وتلكَ فتنةٌ عَظيمةٌ. ولَمَّا كانَت بعضُ الأزواج حَسَنَةً لأنَّها تعين على القيام بالواجب وهنَّ قَليلٌ وكذلكَ بَعض الأولاد وهُم قَليلونَ أتَى بِمِنْ التي للتَّبعيض فَقال: “إنَّ مِن أزْواجِكم وأولادكم عدًّوا لَكم“، وقال تعالى في فتنَة الأموال والأولاد: “إنَّما أمْوالُكم وأولادُكُم فِتنَةٌ” أيْ بَلاءٌ وشُغْلٌ عَن الآخرة ولَربَّما أوقَعوا في ارتِكاب العَظائِمِ.

34. من فِتنة الأمْوال ما في المُوَطَّأ ونَصّه : “حدَّثني مالكٌ عن عبد الله بن أبي بكرٍ أنَّ أبا طلحةَ الأنصاريّ كانَ يُصَلِّي في حائطِه (أي: بُستَانِه) فَطارَ دِبسيٌّ، فَطَفقَ يتَردَّد، يَلتمس مخرجًا فَأعجبه ذلك، فَجعلَ يُتْبِعُهُ بَصَرَه ساعةً، ثمَّ رَجع إلى صلاتِه، فإذا هو لَم يَدرِ كَم صلَّى. فقال: “لقد أصابَتني فِي مالي فتنةٌ”. فَجاء إلى رَسول الله، صلَّى الله عليه وسلم، فَذكرَ له الذي أصابَه في حائطه من الفِتْنَةِ وقال: يَا رَسولَ الله ! هو صَدقَةٌ لله فَضَعْه حيثُ شئتَ”.

35. وحَدَّثني عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنَّ رجلاً من الأنْصار كان يُصلِّي في حائطٍ لَه بالقفِّ في زَمان الثَّمْر والنَّخْل، قَد ذُلِّلَت فَهي مُطَوَّقَةٌ بِثمارِها، فَنظَر إلَيها فَأعجَبَه ما رَأى من ثِمارِها، ثمَّ رَجعَ إلى صَلاتِه فإذا هو لم يَدر كم صَلَّى. فَقال: لَقد أصابتني في مالي هذا فتنةٌ. فَجاء عثمانَ بنَ عفَّانَ وهو يَومئذٍ خَليفَةٌ فَذكرَ له ذلك. وقال: هو صدَقَةٌ فَاجْعله في سُبلِ الخير. فَباعَه عثمانُ بنُ عفَّانَ بخمسينَ ألفًا. فَسُمِّيَ ذلكَ المالُ الخَمسينَ”. اهـ.

36. فأنْت تَرى في هَذَيْن الحديثَيْن ما أصابَ هذيْنِ الأنصارِيَيْن من الفِتنَة في صلاتِهما بسبَبِ مالِهِما. ولكنْ انظرْ بِبَصر الإيمان كيفَ كان أهلُ الصَّدر الأوَّلِ يُداوونَ مَرضَ قُلوبِهِمْ ويَدفعون عنها الغفلَةَ وعَدَمَ الحضور في مُعامَلَتِهِم مَع مَعبودِهم، جلَّ وعلا. يَرضى الرَّجلُ منهم إذا سَها عَن ركْعةٍ من صلاتِه بَعد تَرقيعِها وفِعل ما يَجبُ شَرعًا إلاّ أنْ يستهلكَ ما كانَ سببًا في غَفلتِه بإنفاقه في سُبِلِ الخَير، رضيَ الله عنهم.

37. ومن فِتنَة الأولاد ما حَكاه الخَازنُ في “تفسيره” ونصَّهُ: عن بَريدَةَ، رضيَ الله تعالى عنه، قال : كان رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم، يَخطُبُنا، فَجاءَ الحَسَنُ والحُسَيْنُ، وعَليهما قَميصانِ أحمَرانِ يَمشيانِ، ويَعثُرانِ فَنَزلَ رسولُ الله، صلَّى الله عليه وسلم، عَن المِنْبَرِ فَحَملَهما فَوضَعهما بَينَ يَديْهِ ثم قال: صدَق اللهُ، “إنَّما أمْوالُكم وأولادُكم فِتنَةٌ“. نَظرتُ إلى هَذَيْن الصَّبِيَيْنِ يَمشيانِ ويَعثرانِ فَلم أصْبِرْ حتَّى قَطعت حديثي ورَفعتُهما. اهـ”.

38. فَالزَّوج والوَلد والمالُ عَدُوَّةٌ للإنسان وفتنةٌ له في دِينِهِ ومعامَلتِه مَع مَعبودِهِ، ولذلكَ اشتكى حنظَلةُ، رَضيَ الله عنه، إلَى رَسول الله صلَّى الله عليه، وسلم فَقال : فَإذا خَرجنا عَافَسنا الأزواجُ والأولادُ والضَّيعاتُ، نَسينَا كثيرًا.

39. فَقال لَه رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم: “والذي نَفسي بِيَدِه لَو تَدومونَ عَلى مَا تَكونونَ عِندي وفِي الذِّكْرِ لَصافَحْتُكم الملائكةُ على فُرُشِكُم وفي طُرُقِكِم.” فَقولُه: “والذي نفسي بيده“، يمينٌ منه، صلَّى الله عليه وسلَّم، يُؤَكِّد به الخبرَ لحَنظلَةَ تَثبيتًا لِقلبه، فَنَزَّلَه منزلةَ المُتَرَدِّدِ في الخَبَر، ولو كانَ خاليَ الذِّهْن لَما أكَّدَ لَه ذلك، للقاعِدَة المَشهورة عند علمَاءِ المَعاني المُشار لَها بقولِ الشَّيخِ الأخْضَريِّ في الجَوهَرِ المَكنُون:

فَيُخْبَرُ الخالي بــــلا توكيدٍ * ما لَم يَكن في الحُكْم ذا تَردِيدٍ

40. وقَولُه: “لَو تَدومُونَ عَلَى مَا تَكونُونَ عِندِي“، مِن تَمامِ الحُضورِ، وعَدَمِ الغَفْلَة، ورِقَّةِ القَلْبِ، لَصِرتُم من المَلإ الأعْلى، أرْواحًا مُجَرَّدَةً، لا حجابَ عَليها يَمنَعها من الكَشْفِ عَن العَوالِم الغَيْبيَّة، كَعالَم المَلائكة الذين هُم أجسامٌ نورانيّةٌ، بَل إنَّهمْ يَكونونَ أشدَّ رَغبَةً واشتياقًا لَكم فَيَسْعَونَ لِمُصافَحَتِكُم تَبَرُّكًا بِكم، سَعيَ الفاضل للأفضل، إذ خَاصّةُ المُؤمنينَ أفضلُ من عامَّةِ المَلائِكَة.

41. إذَا دامَ الإنسانُ عَلى مَا كانَ عَلَيْهِ بينَ يَدَيْ سَيِّدِ الوُجود، صلَّى اللهُ عَليه وسلَّم، صارَ من الخاصَّة تُصافِحُه المَلائكةُ تَبَرُّكًا به عَلى فُرُشِه، وفي طَريقه.

42. وقولُه: “وفِي الذِّكْرِ“، معطوفٌ عَلى مَا قَبْلَهُ. والمَعنى: لَو تَدومونَ علَى مَا تَكونونَ عَليه في الذِّكْر من تَمامِ الحُضورِ، واطْمِئنَانِ القَلب، لَصَافَحَتْكم الملائكةُ عَلى فُرُشِكم وفِي طُرُقِكُمْ أيضًا. وانظرْ ما هو المُراد بالذِّكر هل هو الصلاة فإنَّها تُسمَّى: ذِكْرًا، ومنه قَولُه تعالى: “يا أيّها الذين آمنوا لا تُلْهِكُم أموالُكُم ولا أوْلادُكُم عَن ذِكرِ اللهِ” أيْ عَن الصَّلواتِ الخَمس، كما في الخازن، أو المُرادُ بِه الذِّكرُ المَعروفُ، وهو تَكرير أسمائِه تعالى، وتَرديدُ كَلمة الإخلاص ومنه قَولهُ تعالى: “فَاذْكُروني أذْكُرْكُمْ ” .

43. وقوله في بَعض كلامه: أنَا عندَ ظَنِّ عَبدي بي وأنا مَعه إذا ذَكَرنِي، فإنْ ذَكَرني في نَفسِهِ ذَكرته في نفسي، وإنْ ذَكرنِي في مَلإٍ ذَكَرتُه في مَلَإٍ خَيرٍ مِنه، وإنْ تَقَرَّبَ إليَّ شِبرًا تَقرّبتُ إلَيه ذِرَاعًا، وإنْ تَقَرّبَ إليَّ ذراعًا تَقرّبتُ منهُ باعًا، وإن أتاني يَمشي أتَيتُهُ هَرولَةً “.

44. والأوْلَى والأحْسَن تَعميم الذّكرِ في الحَديث وحَملُه عَلى ما هو أعمُّ، فإنَّ الذَّاكرَ يَحصلُ لَه الحُضورُ، وتَنْدَفِعُ عَنْهُ الغَفْلَةُ في الذِّكرِ، وفي الصَّلاةِ وفي تلاوةِ القُرآنِ وفَي جَميع أنواع الذِّكْر يَدلُّ عَلى ذلك قولُه تَعالَى في بعض كلامه: “أنَا مَع عَبدي مَا ذَكَرنِي وتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتاهُ” ، وقوله “ أنا جَليسُ مَن ذَكَرَنِي الحديث.

45. فَمن كانَ اللهُ مَعَه وجليسُهُ لا بدَّ أنْ تَجذِبَهُ تلكَ المَعيَّةُ والمُجالَسة فَتكسِبَه حضورًا واطمِئنَانًا لِقَلبِهِ وغَيْبَةً عمَّا سوى مَطلوبِه، وما دَامَ الإنسانُ في حُضورٍ وغَيبَةٍ عَمَّا سوى المَذكور كانَ إلَى الملإِ الأعْلى أقْرَبُ، فَتَسْعَى إلَيْه المَلائكةُ لِتُصافِحَهُ تَبَرُّكًا به فَتَتَنَزَّلَ عَليه، ما كانَ مُستقيمًا مع رَبِّهِ وتَوحيدِهِ وخالصِ عَمَلِهِ.

46. يَشْهَدُ لهذَا قَولُه تَعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33 ﴾ ﴿ولاتَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35﴾ .

47. والمَعنى أنَّ الذين وَحَّدوا اللهَ، تَباركَ وتَعالَى، ودَاموا عَلى اسْتقامَتِهم أيْ عَلى إخْلاصهم في العمل بأنْ لَم يَخطُر عَلى ضَميرهِم إلاَّ اللهُ فَكانوا حاضِرينَ مَعَهَ تَتَنَزَّلُ عَلَيهم الملائكةُ لِتُبَشِّرَهمْ بهاتِه البِشارَات التي هي عَدَم خَوفِهِم وعَدَمُ حُزْنِهِم وتَبشيرهم بالجنة وتَبشيرُهُمْ بأنَّهم يَكونون أولياؤُهم في الحَياة الدَّنْيا وفي الآخِرَةِ.

48. وَتَفسيرُنا الاستِقامَةَ بالإخْلاص هو مَا ذَهبَ إلَيْه سيِّدُنا عثمانُ بنُ عفَّانَ، رَضيَ الله عَنه، كَما حَكاه الخَازنُ في تَفسيره ونَصُّه : “وقالَ عثمانُ، رَضيَ الله تعالى عنه، : استَقاموا أخْلَصوا في العَمَل وتَنزلُ الملائكةُ عَلى المُستَقيمينَ فِي الحَياة الدنيا”، حَكاهُ الشَّيخُ سليمانُ الجَمَل في حاشِيَتِه عَلى تَفْسير الجَلالَيْن، ناقِلاً لَه عَن البَيْضاويّ ونَصُّه، عَاطِفًا لَه عمَّا حَكى من الأقْوال، أو فِي حَياتِهم فيمَا يَعْرِضُ لَهم منَ الأحْوال تَأتيهم بما يَشرَحُ صُدورَهُم ويَدفَعُ عَنهم الخوفَ والحُزْنَ.

49. قُلتُ: يُؤَيِّدُ تَنَزُّلَ الملائكةِ عَلى المُستَقيمينَ فِي الحَياة الدُّنيَا قَولُه تعالى بعد ذلك: “نَحنُ أولياؤكُم فِي الحَياةِ الدُّنْيا”، فإنَّ قَولَ المَلائكةِ في الآخِرَة أو عندَ المَوتِ:“نَحْنُ أولياؤكُم في الحَياة الدُّنْيا” لا تَظهَرُ عَلَيْه فَائدَةُ التَّبشير.

50. وتَخْصِيصُ النَّبِيّ، صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّم، مُصافَحَةَ الملائكة بِهَذَيْن الحَالَتَيْنِ أعْني: الفُرُشَ والطُّرَقَ لأنَّهُمَا غَالبَا أَحوالِ الإنْسان فَذَكَرَهُمَا للإحاطَةِ والتَّعْمِيم، أيْ تُصافِحُكُم في جَميعِ أحْوالِكُم واللهُ أعْلَمُ.

51. وقَولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّم: “ولَكن يا حنظلَةَ ساعَةٌ وساعَةٌ” مُدَاوَاةٌ وعِلاجٌ مِنهُ، صَلَّى الله عَلَيه وسلَّم، لِشِكايَة حَنظلَةَ، رَضيَ اللهُ عَنه، أرادَ به تَسْلِيَتَه أوَّلاً عمَّا يُصيبُه مِن الغَفلة واستلفاتِه ثانِيًا للحُضور مَع اللهِ، فَكأنَّه يَقول لَه: إنَّ ما تَرجُوهُ أنتَ من الحُضورِ لا يَدوم بَل سَاعَةٌ فِي حُضورٍ وسَاعَةٌ في غَيْبَةٍ، وعَليكَ أنْ لاَ تَتَأَسَّفَ وتَحزَنَ تَأسُّفًا يوجب لَكَ الغَفلَةَ عَن اللهِ فيمَا أقامَكَ فيهِ.

52. واعلَمْ أنَّ القلوبَ بيدِ اللهِ يُقَلِّبها كيفَ شَاءَ فَيهديها للحضورِ، والاستِقامَة إذا شَاءَ ويُضلِّهَا عَن سَواءِ السَّبيلِ إذا شَاءَ فَهو يُضلُّ مَن يَشاء ويَهدِي مَن يَشاء.

53. وقولُه: “ثَلاثَ مَرَّاتٍ” من كلام حنظلة، رَضيَ الله عنه، أيْ أنَّ النبيَ، صلَّى الله عليه وسلَّمَ، كَرَّرَ هذه الجملةَ ثلاث مَرَّاتٍ، وهَكذا شَأنهُ، صلَّى الله عليه وسلم، في مواعظه وتذكيراتِه كثيرًا ما يُكرِّرَها ثلاثًا لتحفظَ عَنه. وهو أنفعُ تذكيرٍ للسَّامع، وذلك من حرصِه، صلَّى الله عليه وسلم، عَلَى أمّته ورحمتِه بهم.

54. وقَد مَنَّ الله علينا بذلك فقال: “حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم” ، فإذا أرادَ اللهُ الهدايَةَ أثَّرت مُذاكرتُه، صلَّى الله عليه وسلم، ونَفَعَ دَواؤه، وشُفِيتِ القلوبُ من أدْوائِها، فَقد بلغت المنى وإلاّ فالتسليم للهِ فيما يشاءُ أولَى، والحضورُ مع الفاعل المُختار، جلَّ جلالُه أعلى، لذلك قال تَعالى للمرشد الأعظم في ختام هذه السورة: “فإنْ تولّوا فقل حسبي الله لا إله إلاّ هو عليه توكَّلتُ وهو رَبُّ العرش العظيم “.

55. في الخامس عَشرَ من ذي القَعدة سنة 1343 كَتَبه العبدُ الضَّعيفُ مُحَمَّد المدنيُّ، العَلاويّ، القصيبي المديوني، غَفرَ اللهُ لَه ولوالديه ولمشائخه ولجميع المسلمين آمينَ.

مختارات مدنية

مختارات مدنية

cover-3.jpg

هَذهِ المُختارات باقةٌ مُنتقاةٌ من جِياد النّصوص وعَزيز المعاني، اقتُطِفَتْ مِن تُراث الفِكر الصوفيّ للشيخ مُحمّد المَدني (1888-1959). تَعْرِض هذه المُختارات لأهمَّ مقامات التّصوّف الإسلاميّ التي عَبّر عنها الشيخ المَدني، في عباراتٍ ناصِعَة، وتَشمَل معارجَ الرّوح التي على طالبِ الحَقيقة أن يتتبّعَها ومَدارج التزكية القلبيّة التي يَحسن بها أن يرتَقيَ فيها. وفيها إشاراتٌ إلى أهمّ مَراتب المَعرفة الذّوقيّة. وقد اقْتُبِست مِن مُجمل آثارِ الرّجل التي تَضمُّ كتبًا ورَسائلَ وشروحًا، انتقَيْنا منها عيونَ نُصوصِهِ التي تَعكس فكرَه بِوضوحٍ، وتُجْلي طولَ باعِهِ في فنّ التَّصوف ومَدى تصرّفه في أصولِهِ وفُروعِهِ.

هذا، وتهدفُ هذه المُختارات إلى إعْطاء صورَةٍ صادقة، وهذه وَظيفة المُختارات، عن عُمق الرّجل وأصالة مُقارَبَته، ومن ثَمَة إلى الحَثّ على مُطالَعَة سائر ما كَتَبَ والعودَة إلى رصيدِهِ الثّري الذي يتوزّع على ما يقارب الخَمسَةَ عَشرَ تأليفًا، شَملت كافّة فروع المَعرفة الإسلاميّة.
وبما أنّ هذا التُّراثَ لم يُترْجم بَعدُ إلى الفرنسية، بِاستثناء بَعض الصفحات من تَفسيره، قَرّرنا نَقْلها إلى هذا اللسان حتى يَطّلعَ الجمهور الناطق به على أعمال الرَّجل ويتعرَّفَ على فكرٍ أصيلٍ، طالما طَبَع بطابَعِه التصوّفَ في البلاد التونسيّة، طيلة النّصف الأول من القرن العشرين. ولا يجب أن يَغيبَ عنّا ما في تَرجمة أساليب التعبير القديمة والمَضامين الصوفيّة من صعوباتٍ، اقتحمنا ميدانَها بكثير من التهيّب والحذر، راجين التّوفيق في نَقل تلك المعاني من بيئاتها الأصليّة إلى مَجال الثقافة الفرنسيّة.

أما كاتبُ هذه النصوص فهو الشيخ محمد المدني (1888-1959). وُلدَ في بَلدَة قَصيبة المديوني (ولاية المنستير في الساحل التونسي)، في عائلة أقربَ إلى رقّة الحال. تلقّى تَعليمَه الابتدائي لَدى مُؤدّبي البَلدة وبَعدَها انتقلَ إلى تونس العاصمة ليلتحقَ بجامع الزيتونة حواليْ سَنَة1904 ، وهناك اغترَفَ من علوم الآلة وعلوم المقاصد على يَد مشائخ مَعروفين مثل محمد الخضر حُسَين (1876- 1958) ومحمد الطاهر بن عاشور (1879-1973) وبلحسن النجار (1876-1952)، وكذلك الشيخ الصادق الصّحْرواي الذي لقّنة مبادئ التصوّف.

وفي نهاية الفصل الدراسي لسنة 1910، لم يُسمَح للشابّ محمّد المدني باجتياز مُناظرة « العالِميّة » مع أنه أدرك مُستواها، وذلكَ بِسبب مُشاركته في مظاهرات الطلاب (في أفريل 1910) ضدّ سلطات الاستعمار. وفي نفس هذه السّنة، التقى بالشيخ أحمد العلاوي (1869-1934) والتحقَ بطريقته الصوفيّة. ثم ما لبث أن ارتحلَ إلى مستغانم حيث قَضى سنةً كاملة في تَحصيل العلوم الروحيّة تحت أنظاره، وعاد منها بإجازةٍ خطيّة في نشر طريق التصوّف بالبلاد التونسية. وظل يَزور شيخه العلاوي بانتظام حتى وفاته سنة 1934، كما زاره هذا الأخير مَرَّتَيْن في قصيبة المديوني.

أسّس الشيخ محمد المدني زاويتَه سنة 1918وبدأ أتباعُه في التكاثر، وظل منذ ذلكَ التّاريخ حتى وفاته سنة 1959 يَجتَهد في نَشر الطّريقة الصوفيّة التي شَيّدها على الجَمع بين العلوم الشرعيّة والمقامات الروحيّة، أو الحقيقة والشّريعَة. فالتَفّ حوله أتباع كثيرون وتخرَّج على يَديْه الآلاف من المحبّين. تَرك مجموعةً من المؤلّفات في تفسير القرآن والفقه والتصوف واللغة إلى جانب ديوانٍ شعري، وجلّها اليوم مطبوع.

نجم الدين خلف الله
باريس
15-10-2022